في ذكرى ميلاده.. من هو «أبو زهرة» الذي رفض عبد الناصر نشر أعماله؟
يحل غدا التاسع والعشرون من مارس، ذكرى ميلاد عالم جليل وإمام فصيح مفوه، تتباهى به مصر بين الأمم حيث كان ينقل رسالة الإسلام بالحجة والدليل، يدعو الناس إلى الحق، وينير لهما الطريق ويكشف لهم الزيف، ويفند بين أيديهم الباطل، يتقدم الصفوف بلا خوف أو وجل، وهو محمد ولد محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بـ"أبي زهرة".
ـ الميلاد والتعلق بالعلم
ولد في المحلة الكبرى التابعة لمحافظة الغربية في (6 من ذي القعدة 1315هـ ـ 29 من مارس 1898م)، ونشأ في أسرة كريمة عنيت بولدها، فدفعت به إلى أحد الكتاتيب التي كانت منتشرة في أنحاء مصر تعلم الأطفال وتحفظهم القرآن الكريم، وقد حفظ الطفل النابه القرآن الكريم، وأجاد تعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم انتقل إلى الجامع الأحمدي بمدينة طنطا، وكان إحدى منارات العلم في مصر تمتلئ ساحاته بحلقات العلم التي يتصدرها فحول العلماء، وكان يطلق عليه الأزهر الثاني؛ لمكانته الرفيعة.
بالتدريج سيطرت على الطالب النجيب روح الاعتزاز بالنفس واحترام الحرية والتفكير وكره السيطرة والاستبداد.. وقد عبر أبو زهرة عن هذا الشعور المبكر في حياته بقوله: “ولما أخذت أشدو في طلب العلم وأنا في سن المراهقة.. كنت أفكر: لماذا يوجد الملوك؟ وبأي حق يستعبد الملوك الناس؟، فكان كبر العلماء عندي بمقدار عدم خضوعهم لسيطرة الخديوي الذي كان أمير مصر في ذلك الوقت”.
وبعد ثلاث سنوات من الدراسة بالجامع الأحمدي انتقل إلى مدرسة القضاء الشرعي 1916م بعد اجتيازه اختبارًا دقيقًا كان هو أول المتقدمين فيه على الرغم من صغر سنه عنهم وقصر المدة التي قضاها في الدراسة والتعليم، وكانت المدرسة التي أنشأها محمد عاطف بركات تعد خريجيها لتولي مناصب القضاء الشرعي في المحاكم المصرية.
ومكث أبو زهرة في المدرسة ثماني سنوات يواصل حياته الدراسية في جد واجتهاد حتى تخرج فيها سنة 1924م، حاصلا على عالمية القضاء الشرعي، ثم اتجه إلى دار العلوم.
ـ المناصب التي عمل بها "أبو زهرة"
وبعد تخرجه عمل في ميدان التعليم ودرّس العربية في المدارس الثانوية، ثم اختير سنة ١٩٣٣م للتدريس في كلية أصول الدين، وكلف بتدريس مادة الخطابة والجدل؛ فألقى محاضرات ممتازة في أصول الخطابة، وتحدث عن الخطباء في الجاهلية والإسلام، ثم كتب مؤلفًا يعتبر الأول من نوعه في اللغة العربية، حيث لم تُفرد الخطابة قبله بكتاب مستقل، ولما ذاع صيته وبراعته في مادته اختارته كلية الحقوق المصرية لتدريس مادة الخطابة بها، بعد مد قصيرة عهدت إليه الكلية بتدريس مادة الشريعة الإسلامية، وكان أبو زهرة أهلا لهذه الثقة الكبيرة، فزامل في قسم الشريعة عددًا من أساطين العلماء، مثل: أحمد إبراهيم، وأحمد أبي الفتح، وعلي قراعة، وفرج السنهوري٠
وتدرج أبو زهرة في كلية الحقوق حتى ترأس قسم الشريعة، وشغل منصب الوكالة فيها، وأحيل إلى التقاعد سنة 1958م، وبعد صدور قانون تطوير الأزهر اختير الشيخ أبو زهرة عضوًا في مجمع البحوث الإسلامية سنة 1962 وهو المجمع الذي أنشئ بديلا عن هيئة كبار العلماء، وإلى جانب هذا كان الشيخ الجليل من مؤسسي معهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة، وكان يلقي فيه محاضراته في الشريعة الإسلامية احتسابًا لله دون أجر، وكان هذا المعهد قد أنشئ لمن فاتته الدراسة في الكليات التي تُعنى بالدراسات العربية والشرعية، فالتحق به عدد كبير من خريجي الجامعات الراغبين في مثل هذه الدراسات.
ـ الإنتاج العلمي والأدبي
كتب الشيخ أبو زهرة مؤلفات كثيرة تمثل ثروة فكرية ضخمة عالج فيها جوانب مختلفة في الفقه الإسلامي، وجلّى بقلمه فيها موضوعات دقيقة؛ فتناول الملكية، ونظرية العقد، والوقف وأحكامه، والوصية وقوانينها، والتركات والتزاماتها، والأحوال الشخصية في مؤلفات مستقلة.
وتناول ثمانية من أئمة الإسلام وأعلامه الكبار بالترجمة المفصلة التي تظهر جهودهم في الفقه الإسلامي في وضوح وجلاء، وهم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وزيد بن علي، وجعفر الصادق، وابن حزم، وابن تيمية.
وإلى جانب الفقه وقضاياه كان لأبي زهرة جهود طيبة في التفسير والسيرة؛ فكان يفسر القرآن في أعداد مجلة لواء الإسلام الغراء، وأصدر كتابًا جامعًا بعنوان “المعجزة الكبرى” تناول فيه قضايا نزول القرآن وجمعه وتدوينه وقراءته ورسم حروفه وترجمته إلى اللغات الأخرى. وختم حياته بكتابه خاتم النبيين تناول فيه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، معتمدًا فيه على أوثق المصادر التاريخية، وكتب السنة المعتمدة، وقد طبعت هذه السيرة في ثلاثة مجلدات.
ـ مؤلفات الإمام أبي زهرة
ألف ما يزيد عن 30 كتابًا غير بحوثه ومقالاته ومن أشهرها مؤلفاته: – تاريخ المذاهب الإسلامية. – العقوبة في الفقه الإسلامي. – الجريمة في الفقه الإسلامي. – علم أصول الفقه. – محاضرات في النصرانية. – زهرة التفاسير، وقد نشر بعد وفاته." مقارنات الأديان" .
ـ أشهر تلامذته
الشيخ محمد الغزالي والشيخ الدكتور محمد الطيب النجار، والدكتور عبد العزيز موسى عامر والشيخ أحمد السيد الكومي.
بعيدًا عن العلم كان صريحًا ولا يخاف مواجهة أحد وعارض الرئيس عبد الناصر في العديد من القرارات، وكان ذلك سببًا ليمنع الزعيم الراحل اي شيء يخصه حيث كان يعلن عن آراءه المعارضة له في دروسه ومحاضراته ومجالسه.
وفاة الشيخ وبعد حياة حافلة بجلائل الأعمال وبكل ما يحمد عليه توفي الشيخ سنة 1974 تاركا تراثا خالدا وذكرى عطرة ومواقف مشرفة.