حمادة القناوى.. الجهادى الذى يصنع «القطايف» من الخبز والمربى بالزنزانة
لا أعرف لماذا شعرت بأنه قريب منى؟.. كنا كثيرًا ما نتحين فرصة اقتراب ميعاد النوم الإجبارى ليلًا، لنتحدث.. فى يوم حينما وصلنا أن هناك هجومًا مسلحًا على بنك بمدينة أبوتيج بصعيد مصر، قال لى: إن هذا الباب لن يفتح إلا حينما يتوب هؤلاء عن الدم، ونحن إن سكتنا شاركنا معهم فى الإثم والذنب.
على الفور قررت أن أصدع برأيى بصراحة، حول حرمة هذه العمليات.. حرمة قتل الجنود، حرمة قتل الأهالى، وضلال ما يسمى قتال الطائفة الممتنعة.
لم نخشَ أنا وحمادة القناوى من المقاطعة، ولا من كدرة الحصار الذى سيفرضونه حولنا.. كان يبتسم، وهو يقول لى: أنا صعيدى من قنا.. أنا لا أخشى هؤلاء.
مع بداية شهر رمضان، كان يخترع حمادة محمد القناوى السعادة لنا، وأهم شىء ما زلت أذكره من أعماله، هو صناعته لـ«القطايف»!.
كنا فى هذه الأيام لا نجد سوى تعيين السجن وطعامه، وفى أول يوم من الشهر الكريم يأخذ القناوى عجين الخبز ويصنع منه مثل القطايف، ثم يغمسه فى المربى.. وعقب الإفطار يوزع ما صنعه على الجميع.. وكنا نلتهمه ونحن نضحك على قطايف سجن الوادى.
استطاع القناوى الحصول على سكر وشاى، وقرر عمل كوب شاى احتفالًا بقدوم رمضان، ولم نكن نملك لا سخانًا ولا أية أدوات أخرى، لكنه أحضر زجاجة من البلاستيك من أحد الجنائيين، ومجموعة من الأكياس، وبطريقة ما صنع (التوتو) وهو شىء يشبه إلى حد ما السخان، وبالفعل شربنا فى هذا اليوم الشاى الذى لم نكن تذوقناه من سنوات طوال.
القناوى كان محترفًا لتأويل وتفسير أحلامنا، وفى الأغلب كان يبشرنا دائمًا، فإن خرجت من الصلاة قال لى إفراج بإذن الله، أما أكل البطيخ والشمام فزيارة من أهلى، وإن ركبت سيارة قال لى ستتزوج إن شاء الله! ورغم أننى كنت أعلم أنه يحترف صناعة البشريات، فكنت يوميًا أقص عليه أحلامى.
قررت إدارة السجن فجأة إدخال الكانتين والسماح لنا بالشراء منه عن طريق أماناتنا، ومنذ دخل إلى الزنازين أغرقتنا المشاكل.. فالجماعة ترى أن التكافل الاجتماعى يعنى أنه لا أحد يملك زيارة أو بونات، فكله ملك لها توزعه بالتساوى بين الأفراد.. كل شىء اشتراكى ومشاع بين الجميع حتى أرغفة العيش تقسم إلى لقيمات صغيرة وتلقى بين المجموعات.. ما عدا اللحمة والفراخ التى تأتى فى الزيارة طويلة الأمد.. لا تلقى بين المجموعات بل تقسم بميزان حساس.. كان الوعاظ يقولون إن الأشعريين إذا أرملوا فى الغزو جمعوا طعامهم وقسموه بينهم.. كنت أنا وحمادة القناوى نحترم وجهة نظرهم، لكنهم اتهموننا فيما بعد بأننا نرفض الاشتراكية والتكافل الاجتماعى الإسلامى وحديث أرملوا فى الغزو، ونؤيد الرأسمالية والأكل الخاص.. والله لا أنا ولا هو اشتراكى أو رأسمالى، ففى هذا الوقت كنت أكره هذه المصطلحات ولا أعرف معناها.. وهذا وحده كان كفيلًا بأن يحمّلنا من المشاكل ما لا طاقة لنا به.. وبعد أشهر أصدر أمير السجن بيانًا بأن الجماعة اتجهت للرأسمالية، ولن تقطّع أرغفة الخبز!، وحدثت مشكلات كبيرة فقد طلب القناوى من أمير الزنزانة عسلًا أبيض كان جاء له من أهله فى الزيارة، فرفضوا إعطاءه له، وكلمة من هنا وكلمة من هناك، ضربوه علقة ساخنة، فقرر على الفور كتابة إقرار توبة وبراءة من الجماعة.
كان الإقرار مكتوبا فيه «أقر أنا فلان بن فلان أننى تخليت عن العنف وأننى أحترم الدستور وعلماء الأزهر».
كان الجميع يرفضونه لأن الجماعة أمرتهم برفضه لأنه كان يعنى فى بداية الأمر أنه النكوص عن الطريق والتساقط عن درب الدعوة إلى الله.
وخرج القناوى إلى عنبر التائبين، وتركني وحيدًا، ولن أنسى هذا اليوم حينما أمر الأمير بأن يهتف الجميع:
«يا حماة الدين حى على الجهاد إن التائبين قد باعوا البلاد».
كأن الذين تابوا عن العنف هم من باعوا البلاد، وأى بلاد تلك التى باعها المساكين؟! أصبح الذين يكتبون تلك الإقرارات لهم هدف واحد هو الهروب من جحيم المشاكل وزنازين الجماعة وحياتنا الجماعية إلى الحياة الفردية بلا أمير أو وزير، بالإضافة إلى الامتيازات الأخرى، مثل الكهرباء وزيادة وقت الزيارة.
كنت أفكر فى أننى سأصبح وحيدًا بين هؤلاء، وأننى لن أستطيع أن أذهب معه خوفًا من بلدياتى الذين حولى فى الزنازين، الذين سيقولون لى إنك لم تستطع أن تصبر مثلنا نحن الرجال.. أليست هذه هى عقلية الصعايدة؟!.
كان القناوى يحكى لى عن الأبواب التى ستفتح.. حتى أرفل فى النعاس، فلا أشعر إلا برجلى تبحث عن البطانية، التى تغطى خمسة أفراد بالطول أو العرض قد تجمدت.. والبرد يقاطع خيالاتى وأحلامى، وأنا قاب قوسين أو أدنى من سرداب طويل فى آخره باب منزلى.