فى فقه الأزمة
أول الطريق للتعامل مع الأزمة التى يمر بها العالم ونمر بها معه هو أن نعى بها، لا يمكن لإنسان أن يتجاوز أزمة صحية وهو يظن أنه سليم وأنه يجب أن يستمر فى عاداته التى كان يمارسها قبل أن يمر بالأزمة، وبالتالى فإن أول طريق الشفاء هو أن نعى أننا فى أزمة ثم أن نفكر كيف نتعامل معها وكيف نتجاوزها، العالم كله فى أزمة اقتصادية مركبة، ونحن معه فى هذه الأزمة.. الأزمة الاقتصادية مثل الأزمة الصحية، الجسم يكون سليمًا ثم يضطرب فجأة، تظهر جلطة فى مكان ما، أو يتوقف جهاز حيوى عن ممارسة مهامه، فيضطرب الجسم، وتنهار صحة الإنسان، يقضى أيامًا فى الرعاية المركزة، ينفق كثيرًا ويتكبد خسائر مادية، يقضى أيامًا بين الحياة والموت، ثم يكرمه الله ويتجاوز الأزمة، ويعود لحياته، الأزمة الاقتصادية هى اضطراب فجائى يظهر بين الدخل والنفقات، بين الإنتاج والاستهلاك.. أنت تكسب مائة جنيه وأسعار السلع زادت وأصبحت تحتاج مائتى جنيه، الأسعار زادت لسبب أنت غير مسئول عنه، المسئول عنه جشع وطمع القوى الكبرى فى العالم، لكن أنت والحكومة والدولة تدفع ثمن هذا الجشع والصراع والظلم، ومطلوب منك كدولة وكفرد أن تحافظ على هدوئك وأن تلتزم الحياد، وأن لا تقول لهذه الدول الكبرى أنت ظالمة وقاتلة والعالم تحت إدارتك يسير من سيئ لأسوأ.. أزمتنا فى مصر مركبة، بدأت منذ يناير ٢٠١١.. سمها ثورة أو حركة أو مؤامرة أنت حر، لكن الاقتصاد تراجع بعدها والاحتياطى تبخر، والسياحة انعدمت، ثم قامت ثورة ٣٠ يونيو وعاد الاحتياطى بأكثر مما كان، وتم إصلاح عجز الموازنة، وبدأت خطة جيدة للتنمية والاستثمارات العامة والتحديث والبنية التحتية والامتداد العمرانى والاستصلاح الزراعى بالتوازى مع الانتصار على الإرهاب، وتبريد الصراع السياسى، وفرض الاستقرار الأمنى، لسبب ما ظهر فيرس كورونا، وقيل إنه تسرب من مختبر صينى، ولا يعرف أحد حتى الآن حقيقة ما جرى ولكننا نعرف أننا دفعنا الثمن، عامين من الإغلاق، والركود الاقتصادى، ومليارات أنفقناها من أجل العلاج واللقاحات والرعاية الصحية، وظننا أننا تجاوزنا الأزمة رغم المليارات التى أنفقناها من لحم الحى، لكننا فوجئنا بأن الأزمة لم تنتهِ، فالمصانع التى عادت لضخ البضائع بعد توقف، شكلت عبئًا على وسائل النقل والموانئ، فأصبحت تكلفة النقل مرتفعة، فارتفعت الأسعار وقلت السلع، وكانت هذه هى الأزمة الأولى فى العالم والثانية أو الثالثة لنا منذ ٢٠١١، اتخذت الدولة ما يلزم لامتصاص موجة التضخم العالمى، وتم رفع الحد الأدنى للأجور، وتحفيز حزم المساعدات، والحفاظ على ملايين العمال فى المشروعات القومية، وبدا أن الأمر قابل للاحتمال، لكن هذه الدول الكبرى الظالمة والقاتلة تأبى أن تعيش بقية الناس فى سلام، ولو بالحد الأدنى من متطلبات الحياة، إنها تشبه شخصًا مرفهًا يعانى من الملل فيناكف فى خلق الله بحثًا عن طعم للحياة، اشتعل الصراع مرة أخرى فى أوكرانيا، وسط نذر حرب عالمية ثالثة، أو حرب بين معسكرين، تصارعت الأفيال ليدفع العشب الثمن، قرر الغرب حصار روسيا اقتصاديًا، أدى هذا لأن تخسر السوق العالمية كل إنتاج روسيا من البترول، هذا يعنى ببساطة أن يرتفع سعر البترول، وهذا يعنى أن يرتفع سعر كل شىء، أزمة يمر بها العالم كله، ونحن من بين هذا العالم التعيس، الشىء المؤلم أن من اتخذوا قرار إشعال الصراع فى أوكرانيا كانوا يعرفون أن العالم سيتضرر اقتصاديًا، ومن اتخذوا قرار إخراج روسيا من السوق العالمية كانوا يعرفون أن العالم كله سيتضرر اقتصاديًا، لكن الأقوياء دائمًا بلا ضمير ولا يفكرون سوى فى مصالحهم، لو افترضنا حسن النية فإن هذه ليست أول أزمة اقتصادية يمر بها العالم، كان هناك الكساد الكبير فى أمريكا ١٩٢٩ وهى أزمة امتدت لكل أنحاء العالم، ونجح الرئيس روزفلت فى التغلب عليها، وطبق خطة أظن أن الرئيس السيسى طبق خطة شبيهة بها حين تولى الحكم وكان من ملامحها التوسع فى المشروعات القومية لاستيعاب العمالة وتشغيل الشركات والتوسع فى مساعدة البسطاء والمضارين من الأزمة، فضلًا عن إجراءات خاصة بمساعدة البنوك على العودة.. استغرقت الأزمة ثلاث سنوات حتى تم حلها، وكان لها ضحايا بلا شك، وخسائر بشرية، وقصص درامية، ومعاناة، لكن هذا هو حال الأزمات، مر العالم بأزمات أخرى لكن أكبرها كان أزمة الرهن العقارى فى ٢٠٠٨.. الولايات المتحدة كانت مركز الأزمة أيضًا.. اشترى الملايين بيوتًا بالتقسيط ثم تعثروا فى السداد.. انهارت شركات العقارات ومن خلفها البنوك، استغرق الأمر سنتين أو أكثر للخروج من الأزمة، نحن فى أزمة أصعب هذه الأيام، الاقتصاد العالمى مثل شرايين الجسد، تظهر جلطة فى الساق وتتحرك نحو القلب، يظهر نزاع فى أوكرانيا فيؤثر على الناس فى حى فيصل، جاهل ومغرض وكاذب من يقول إن الحكومة أو الدولة مسئولة عن الأزمة، كلنا شعبًا وحكومة ضحايا لهذا الجبروت والظلم والفشل العالمى، دورنا أن نتكاتف ونتعاضد، ونتضامن للعبور من الأزمة، أن يحنو بعضنا على بعض وأن يرفق بعضنا ببعض وأن يساعد الغنى الفقير وأن يساعد القوى الضعيف، سواء كان ذلك على مستوى علاقات الدول ببعضها البعض، أو على مستوى الأفراد ببعضهم البعض.. أما كيف نحقق هذا.. فلدينا الكثير والكثير نتحدث عنه فى قادم الأيام فى فقه الأزمة.