رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سور الأزبكية المتنقل

أسعدنى وأثلج صدرى انتقال كبار فنانينا للصعيد، الحفل كان جزءًا من نشاط تقوم به وزارة الثقافة المصرية ضمن مفهوم «العدالة الثقافية».. وما تابعته من أخبار فقد كان هناك هدفان.. أولهما إلقاء الضوء على معبد «أبيدوس» فى سوهاج، ضمن خطة إضافة مزارات سياحية جديدة لخريطة مصر السياحية، والثانى أن ينال أهل الصعيد حقهم فى التواصل مع الفن المصرى، وأن تنتهى عقود طويلة من الإهمال، والمركزية الثقافية، سر سعادتى أننى طرحت الفكرة منذ ما يزيد على ثمانية أشهر فى سلسلة مقالات فى نفس المكان الذى أنشر فيه مقالى الحالى، وبالتحديد كنت أطالب بأن يمتد مشروع «حياة كريمة» ليشمل تغطية الجانب الثقافى والفنى لأهلنا فى الريف، وألا يقتصر هذا المشروع المهم على خدمات الإسكان والبنية التحتية فقط، بالتأكيد كانت الثقافة حاضرة فى حفل إطلاق المشروع التاريخى، ولكن من خلال فكرة «كشك كتابك» فى كل قرية، وهى فكرة بدت أقل من طموح المشروع ومن احتياجات أهلنا فى الدلتا والصعيد بكثير.. أيًا كان الأمر فإن فكرة الحفلات الموسيقية هى فكرة عظيمة ورائعة، ولكن يجب أن تعقبها أنشطة أخرى، بأفكار من خارج الصندوق، إحدى هذه الأفكار أننا لا بد أن نعيد فكرة «المكتبات المتنقلة»، وهى كانت من مصادر الثقافة لجيلى فى الثمانينيات والتسعينيات، وهى كما رأيتها عربة نقل كبيرة، أو «كرافان» مجهز كمكتبة لإعارة الكتب، يتنقل بين الأحياء والقرى، بحيث يكون كل يوم فى قرية معينة يعير الكتب للراغبين، ثم ينتقل لقرية تالية وهكذا، هذه المكتبة المتنقلة لو انتقلت بين ثلاثين قرية كل شهر، بمعدل قرية فى اليوم، فستكون بمثابة ٣٠ مكتبة ثابتة فى ٣٠ قرية، المكتبات المتنقلة ما زالت موجودة، لكنها فى حاجة لتنشيط عملها، والتوسع فيها، ودعمها بوحدات أخرى من مشروع حياة كريمة أو من أى بنود من خارج الميزانية الحكومية إذا كانت بنودها لا تسمح، من الأفكار التى تدعم فكرة العدالة الثقافية أيضًا معارض الكتب المتنقلة بين القرى أو «سور الأزبكية المتنقل».. فى حدود ما أعاين فإن سوق الكتب القديمة لدينا تحتوى على كنوز ثقافية بأسعار مناسبة، أرخص الكتب سعرًا هى سلاسل الكتب المصرية والعربية التى كان يتم دعمها طوال العقود الماضية، هناك كنوز من مشاريع مثل القراءة للجميع، وعالم المعرفة، وكتاب اليوم، وإصدارات الثقافة الجماهيرية، وغيرها من الكتب القديمة ذات الأسعار المناسبة جدًا، سور الأزبكية الآن موجود فى منطقة من الصعب جدًا الوصول لها جغرافيًا بسبب زحام العتبة وإشغالات الطريق وأسباب أخرى، وهو يتحول مع الوقت لسوق للكتب الحديثة والمزورة، ويعتمد على البيع للميسورين من هواة جمع الكتب، وليس للشباب الراغب فى القراءة كما كان الحال فى جيلى مثلًا، والمطلوب أن تنظم وزارة الثقافة معرضًا متنقلًا للكتب القديمة يطوف قرى مصر، وأن تضع سعرًا للكتاب لا يزيد عنه «والوزارة قامت بهذه المبادرة بالفعل فى معرض الكتاب الماضى والذى سبقه».. المطلوب نقل الفكرة للقرى، ولعب دور الوسيط أو المنظم للمعرض، أو شراء الكتب القديمة بسعر الجملة من التجار وطرحها فى معرض الأزبكية المتنقل تحت شعار «أى كتاب بخمسة جنيهات».. أنا أظن أن ميزانية الوزارة بها من البنود ما يسمح بتمويل هذه الأنشطة ذات التكلفة القليلة والمردود الثقافى والمعنوى الهائل، وأظن أيضًا أن مؤسسة «حياة كريمة» يمكن أن تتدخل لتنظيم هذه المعارض بشكل مباشر بالتنسيق مع وزارة الثقافة، وأن هذا يأتى ضمن رؤية نتفق عليها جميعًا بأن الثقافة والوعى هما أقصر طريق لمحاربة التطرف الدينى والأفكار الخرافية التى نشطت فى عقود إهمال القرية المصرية، أنا من الذين يعتقدون أيضًا أن النشاط الثقافى لا يجب أن يتأثر بأى أزمات اقتصادية يمر بها العالم وتنعكس على أوضاعنا، على العكس، تنمية نوازع المعرفة والجمال لدى الناس تسمو بطرق تفكيرهم، وتجعلهم يدركون أن الحياة ليست فى الاستهلاك فقط، مع اتفاقنا جميعًا أن احتياجات الناس الأساسية يجب أن تلبى وهى تلبى بالفعل، ما أقصد أن أقوله إنه مع التطورات التى يشهدها المجتمع ووسائل الاتصال فلا بد من أدوات وأفكار جديدة تؤدى لتنمية ثقافية حقيقية تحدث أثرًا فعالًا خلال وقت قليل، من هذه الأفكار مثلًا ضرورة وجود منصة إلكترونية لوزارة الثقافة، تنشر نسخًا إلكترونية من كل الكتب المهمة فى الثقافة المصرية، وبالتحديد الموسوعات الكبرى، والكتب التى سبق إصدارها فى مشروع مثل القراءة للجميع، والتى سقطت حقوق النشر فيها بموجب قوانين الملكية الفكرية، والحقيقة أن هناك أخبارًا قليلة تتناثر عن الشروع فى تأسيس المنصة الرقمية ثم لا تظهر نتائج محددة، وهو ما يدعونا لطرح الفكرة مرة أخرى.. أخطر ما يواجه فكرة جادة مثل «العدالة الثقافية» أن تتحول لمظهر دون جوهر، ولنشاط دعائى لا نشاط تنموى، وأن يكتفى البعض بـ«لقطة التصوير» دون عمق التغيير، وهو ما لا أظن أنه وارد الحدوث.