أبكيتمونا سامحكم الله
كما هي عادة الشئون المعنوية، التي تمثل أحد أهم تشكيلات قواتنا المسلحة الباسلة، تابعنا منظومة نجاح وطنية وفنية راقية ومتكاملة الأركان لوحات فنية صادقة شاهدناها باهتمام خلال الندوة التثقيفية المنظمة في مناسبة الاحتفال بيوم الشهيد. وقد تميز اليوم بصدق المشاعر، ووضوح الرؤية، والمزج بين تقديم الرسالة بوضوح ودون مباشرة، مع عمق التناول الفني ورقيه.
الظهور الأول الذي أبهرني في الاحتفال كان من نصيب الدكتورة مروة ياسين أستاذ مساعد الإعلام بجامعة بني سويف. إذ أسعدني حضورها الراقي، وأداؤها الرصين. وقد استعدت ذكريات طيبة ومشاعر ود واحترام أكنها لوالدتها العالمة الجليلة وأستاذة الدعوة المستنيرة دكتورة عبلة الكحلاوي. تميز أداء د. مروة بكونه متزنا ولبقا ودقيقا من حيث اللغة والأفكار. ولا جديد في أمر ثباتها الانفعالي بحضرة كبار الشخصيات فهي أيضا ابنة اللواء ياسين بسيوني أحد أبطال حرب أكتوبر المجيدة.
وليس بجديد على النجم يحيى الفخراني أن يشدنا جميعا رغم عدم ظهوره مسرحيا فقد كانت مشاركته صوتية فقط، وهو ما ذكرني بعمل إذاعي قديم ونادر له اسمه "ألف نهار ونهار" من تأليف شوقي حجاب وإخراج الإذاعي الراحل عادل جلال.
ثم يظهر على خشبة المسرح الكاتب عبدالرحيم كمال، الذي كان قد تشرف بمداخلة هاتفية مفاجئة من السيد الرئيس أثناء ظهور تليفزيوني أخير له، حيث تناقشا خلالها حول دور الفن في خدمة المجتمع، وهو ما ظهرت ملامحه عمليا في هذا العرض الفني الراقي. كما شد انتباهي أيضا مخرج الحفل الذي ركز بكاميراته على والدة أحد الضباط من مصابي العمليات التي ظلت متمالكة لمشاعرها ومكتفية بالتصفيق لابنها أثناء سرده حكايته في التصدي للإرهابيين، وحين فرغ فلذة كبدها من عرض حكاية بطولته، انطلقت في بكاء حار يلخص مشاعر صادقة وكلاما كثيرا لم تنطق به هذه الأم المكلومة بإصابة ابنها.
وفي عرض معبر بعنوان "الشهيد خالد" ظهر النجم سيد رجب بملامحه المصرية الأصيلة وبسلاسة أداء تحسب له، فنال استحسان المشاهدين في دقائق قليلة، لكنها معبرة. ووصل لقلوب الناس بنجاح يعجز آخرون عن تحقيقه على مدار مسلسلات تتجاوز حلقاتها الثلاثين حلقة بل قد تمتد لأجزاء طويلة لا يميزها سوى الملل والرتابة والتصنع. غير أن عبقرية رجب أوصلتنا إلى حد تصديقه والبكاء معه عند سماع نبأ استشهاد خالد ولده الوحيد.
ثم آتي معكم إلى درة التاج وذروة الاحتفال الذي بلغ قمة نجاحه عندما وصلنا إلى العرض المميز "رسالة نور"، حيث تألق فيه غناء النجم الكبير علي الحجار برائعة جديدة له إذ شدا من ألحان وكلمات هيثم نبيل- الذي أراه موهبة موسيقية أعلنت عن نفسها بقوة في الحفل- بقوله: "شهدانا نور، نوّر خطانا حمانا.. عايشين في القلوب"، وعبقرية الحجار ليست بجديدة وخاصة عند تصديه لأداء الأغاني الوطنية . كما تألقت بجواره أيضا هبة مجدي الموهوبة كممثلة، وشديدة الإبهار كمطربة لتشدو: "سايب لك أرض كلها خير سايب لك إيه؟ سايب لك مصر".
ونصل إلى عملاقي الأداء التمثيلي النجمة المحترمة ماجدة زكي والفنان الكبير خالد الصاوي. اللذين قدما بسلاسة الأداء وصدق المشاعر برهانا على قدرة الفن في الوصول إلى القلوب بكلمات محدودة تجب آلاف المقالات وتختزل ملايين الأوراق. احتضن الصاوي بأداء راق وبمحبة صادقة وأبوة حقيقية النجوم الشباب رامز أمير ومايان السيد وأحمد خالد صالح الذين شاركوا في العمل فارتحنا برقيهم إلى مستقبل الفن المصري بعيدا عن سخافات وتفاهات أنصاف الموهوبين الذين تفرضهم علينا بعض الأجندات محاولة منها أن تجعل منهم رموزا للفن المصري. وقد نجح الصاوي في تلخيص رسالة العرض بكلمات محدودة تقول: "نور ح يفضل عايش، هوه فيه نور بيموت؟".
ثم نأتي إلى سيدة الأداء التمثيلي الراقي النجمة ماجدة زكي، التي عبرت بصدق عن كل أم مصرية بمشاهد صغيرة المساحة محدودة الزمن، لكنها عميقة التأثير. ويكفينا لإثبات ما نقول التذكير بمجرد مشهد صامت واحد منها، عند تتبع الأسرة لأخبار الحادث الإرهابي في سيناء، إذ جسدت بعبقرية قلق الأم المتجسد من خلال حركة يدين متوترتين، وبدن ينتفض، وشفاه ترتعش، وعيون زائغة، واحتضان "لأفرول" الابن الغائب. أداء جعلني أحرص على الاتصال بها بعد العرض مباشرة لأهنئها على منطقة جديدة في مسيرتها المتواصلة من النجاح والتألق، منطقة طرقتها بهذا الدور صغير الحجم عظيم التأثير.
ولم تتوقف ماجدة زكي عند هذا الحد من الإبهار، بل تجاوزته بزغرودة اختلطت مع النحيب المكتوم عندما تيقنت من نبأ وفاة ابنها الضابط في سيناء. لتثبت أن في مصر نجوما كبارا هم أهل لمحبة الجمهور وثقته . وفي هذا السياق أتمنى أن تستأنف زكي خطوتها نحو تقديم برنامجها التليفزيوني الاجتماعي الذي كانت قد أجلته مع دخول جائحة كورونا، فمثلها سيكون إضافة حقيقية بلون برامجي إنساني مختلف.
ومن الإنصاف أن نذكر بالثناء صاحب الصوت الإذاعي المثقف العميد ياسر وهبة الذي ينتقي مادة الربط كمن ينتقي الحلي ليزين بها عنق محبوبته مصر. هو عرض- بل احتفال- يستحق أن نهنئ عليه قواتنا المسلحة وشئونها المعنوية. احتفال نال استحسان الجمهور وعلى رأسهم السيد الرئيس وحرك في كل فقرة من فقراته مشاعر سيادته ومشاعر المصريين جميعًا، عمل انتهى بنا إلى اليقين أن الفن المصري بخير، وقال لنا كلمة كنا نحتاج إليها من فنانينا الكبار دون أن ينطق بها أحدهم لتقول للجماهير المصرية: اطمئنوا.