رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التنوير الحقيقى

عندما رأيت صورة أول قاضيتين مصريتين على منصة مجلس الدولة همست لنفسى هذا هو التنوير الحقيقى.. إننى لا أقصد بالتنوير ذلك المعنى المبتذل الذى انتحله بعض المرتزقة فى السنوات الأخيرة من أجل تحقيق مكسب مادى هنا أو تقديم برنامج هناك، لكنى أقصد المعنى الحقيقى للكلمة والمستمد من أنوار العقل التى تبدد ظلام الماضى وتطارد الأفكار القديمة والمختلفة، إننى أقصد به تلك الخطوات الثابتة التى يخطوها مجتمعنا منذ ٣٠ يونيو فى اتجاه المستقبل، حيث نلمس سياسات واضحة تجاه منح حقوق لكل من ظلمهم تحالف التطرف والتخلف والفساد الذى سيطر على مصر قبل هذه الصورة العظيمة.. فثقافة التخلف والفساد حرمت الشباب من حقوقهم حتى تحولوا لعود ثقاب يمكن استخدامه فى إحراق كل شىء، وثقافة التطرف حرمت المرأة والأقباط وكل المختلفين من حقوقهم فى المساواة والتمكين وكل الحقوق الدستورية والقانونية المكفولة للمواطنين فى دولة مدنية، هذا التحالف بين الفساد والتطرف كان يحرم فريقًا من المواطنين من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية وهم بسطاء هذا الوطن وسكان العشوائيات الذين تكرمهم الدولة حاليًا بأفضل ما يكون التكريم وترعاهم بأفضل ما تكون الرعاية، وكان حرمان هؤلاء من حقهم هو الجزء الخاص بالفساد، أما الجزء الخاص بالتطرف فقد حرم المرأة المصرية من حقها فى تولى مناصب كثيرة منها العمل فى القضاء، ومنها أن تتولى منصب المحافظ، ومنها أن تتولى وزارات ذات اختصاصات مهمة لا أن توجد فى الوزارة على سبيل التمثيل المشرف، هذه الخطوات الثابتة على الأرض، هى من صميم التنوير، وهى تستند لتفسيرات مستنيرة من رموز المؤسسة الدينية، وهى لا تستفز الملايين المعتدلة من المصريين بل تحظى بتأييدهم، لأنها تغييرات عادلة ومنطقية وترد حقوقًا طال تأخرها، وهى تغير الواقع فعلًا لأنها أفعال لا أقوال، والهدف منها السير نحو المستقبل، لا إثارة الضجة، ولا استفزاز الناس، ولا ركوب التريند بحثًا عن المكسب المادى.. فى ضوء هذه الخلفية قرأت خبر جلوس أول دفعة من القاضيات المصريات على المنصة بعد سبعين سنة كاملة من مطالبة المرأة المصرية بحقها الدستورى فى العمل فى القضاء المصرى، حيث كانت أول من طالبت بهذا الحق طالبة الحقوق المتفوقة عائشة راتب التى كانت تنطبق عليها كل الشروط للانضمام للنيابة العامة لكن تم رفضها بسبب كونها امرأة، فلجأت للقضاء، لكنه فى الغالب لم يحكم لها لأسباب يمكن فهمها، وقد التحقت بعد ذلك بسلك التدريس، ثم أصبحت وزيرة للشئون الاجتماعية، وسفيرة فى الخارجية، لكنها رغم كل ذلك لم تحقق رغبتها المشروعة فى الالتحاق بسلك القضاء المصرى.. والحقيقة أن المرأة المصرية حققت مكاسب عظيمة فى الستينيات، وكان التطور الطبيعى يشى بأن المرأة ستنال حقها فى العمل فى القضاء بعد قليل، لكن المجتمع دخل فى حالة ردة حضارية فى السبعينيات، وخرج المتطرفون من جحورهم، وتراجعت أوضاع المرأة عن المكاسب التى حققتها بدلًا من تحقيق مكاسب جديدة، وما زلت أذكر أن فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى رغم اعتداله الفقهى كان يقف ضد عمل المرأة فى القضاء، وضد عمل المرأة بشكل عام، وأذكر أنه برر رفضه بسبب غريب للغاية إذ قال إن المرأة لو عرض عليها متهم له ملامح جميلة فقد تتأثر عاطفيًا وتحكم لصالحه.. والحقيقة أن فضيلة الشيخ الشعراوى قد جانبه الصواب فى هذا المثال الذى ذكره، ومن فضل الله علينا أن ثلاثة من أكبر علمائنا هم شيخ الأزهر السابق د. سيد طنطاوى، وشيخ الأزهر الحالى د. أحمد الطيب، والعالم الكبير د. حمدى زقزوق وزير الأوقاف الراحل قد أفتوا عام ٢٠٠٢ بأنه لا يوجد نص دينى واضح يقطع بحرمة تولى المرأة القضاء، وكان ذلك بناء على سؤال من وزير العدل الأسبق فاروق سيف النصر.. المرأة المصرية عادت للمطالبة بحقها فى الالتحاق بسلك القضاء حين رفعت المحامية فاطمة لاشين عام ١٩٩٢ دعوى ضد قرار رفض قبولها فى مجلس الدولة رغم انطباق كل الشروط عليها، وقد استمرت تناضل فى جميع درجات التقاضى وذهبت للنقض والدستورية العليا ولكن القضية لم يحكم فيها حتى توفيت رافعة الدعوى فى العام الماضى.. والحق أن القضاء المصرى كان دائمًا قلعة شامخة محصنة، لكن بعض العناصر فى الماضى حاول اختطافه فى اتجاهات تطرف دينى ذكورى وفئوى أحيانًا، ولم تجد الدولة وقتها سوى الالتفاف بإصدار قرار بتعيين امرأة وحيدة فى المحكمة الدستورية العليا وانتدابها من خارج السلك القضائى لا من داخله، وكانت تلك المرأة هى المحامية الكبيرة تهانى الجبالى، التى لم يلبث الإخوان أن تولوا الحكم حتى نجحوا فى إبعادها عن عضوية المحكمة الدستورية هى والقاضى القبطى الوحيد المستشار إسكندر بولس فهمى، الذى دارت الأيام وأصبح رئيسًا للمحكمة التى تم إبعاده من عضويتها، ومن المؤسف أن رئيس مجلس الدولة المستشار محمد الحسينى كان قد اتخذ قرارًا فى عام ٢٠١٠ بفتح باب التعيين فى المجلس لخريجات الحقوق ممن تنطبق عليهن الشروط، لكن الاتجاهات المحافظة والمعادية للمرأة داخل مجلس الدولة نجحت فى إيقاف تنفيذ القرار.. واقتضى الأمر ثورتين؛ كى تتمكن المرأة من نيل حقها فى أن تصبح قاضية فى محاكم بلدها، الذى هى مواطنة فيه، مثلها مثل الرجل تمامًا، ورغم أن كل الدساتير تنص على المساواة بين جميع المصريين إلا أن التنفيذ يحتاج إلى عزيمة قوية وإيمان راسخ بالحق، وهو ما فعله الرئيس السيسى أثناء الاحتفال بيوم القضاء المصرى الأخير فى أكتوبر الماضى، حيث طلب الرئيس من الهيئات القضائية الكبرى مثل النيابة العامة ومجلس الدولة أن تستعين بالنساء فى تعييناتها المقبلة ما دمن تنطبق عليهن الشروط، حيث كانت المرأة المصرية قد نالت حق العمل فى النيابة الإدارية التى تحاسب موظفى الدولة وليس كل المواطنين وكذلك هيئة قضايا الدولة التى هى محامى الحكومة وليست جهة قصائية تفصل بين الناس، لقد كانت المصريات العاملات فى النيابة الإدارية ومجلس الدولة قوام أول دفعة من عضوات مجلس الدولة وعددها ثمانون قاضية حصلن على دورات تدريبية مكثفة وجلست اثنتان منهن على منصة مجلس الدولة أمس الأول فى إشارة لعهد جديد لا يستطيع فيه مصرى أن يبخس حق مصرى آخر لأن القانون يسرى على الجميع، وفى إشارة لعهد جديد أيضًا تمارس فيه الدولة التنوير بالفعل لا بالكلام بحثًا عن العدل وليس بحثًا عن الإثارة والتمويل وبين الاثنين فارق كبير.