بولس فهمى إسكندر
قرأت خبر تعيين المستشار بولس فهمى إسكندر مثلما أقرأ كل الأخبار المهمة التى تطالعنا بها الصحف يوميًا، كنت أدرك أهمية الخبر ولكننى لم أرَ ما يجب التوقف أمامه، فهو قرار بتعيين قاضٍ مصرى كبير لرئاسة أعلى محكمة مصرية وفق نصوص الدستور والقانون.. لكن جرس انتباه رن فى عقلى حين قرأت تعليقًا لحساب لا أعرفه على مقال لى، كان صاحب الحساب يعلق على قرار تعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا باعتباره مخالفًا للشريعة!.. لم أنشغل بالأمر كثيرًا فصاحب هذا التعليق إما جاهل، أو مغرض أو كلاهما معًا، وهو فى الغالب عضو فى لجنة إلكترونية من التى تتولى نشر هذه التفاهات بشكل يومى للتشكيك فى قرارات المسئولين، أو الخطوات السياسية أو الاقتصادية المختلفة.. ألغيت التعليق من على الصفحة وأغلقت التفاعل مع صاحب الحساب وفق خاصية الـ«بلوك»، لكنه بعد ثانية واحدة كان يعيد نشر التعليق من حساب آخر ويسألنى لماذا ألغيت تعليقه؟ دفعنى الفضول لأن أدخل لصفحة هذا المواطن المتطفل والمصمم على طرح رأى عنصرى، يكشف عن جهل بالدستور والقانون ومبادئ حقوق الإنسان عمومًا.. وجدته يسجل على حسابه أنه ينتمى لليمن الحبيب، ولم أعرف هل بياناته سليمة أم مضللة لكن انتماءه الفكرى بدا واضحًا، فهو واحد من قطعان المتطرفين فكريًا الذين يسميهم مستخدمو السوشيال ميديا بـ«الخرفان» كناية عن استسلامهم لعقلية القطيع ولأشياء أخرى.. ولم أعرف هل ما قاله صاحب الحساب نتيجة جهل شخصى منه أم أنه توجه عام لأعضاء هذه الجماعات بالتعليق على الموضوع، إن مصر دولة حديثة، يحكمها دستور مدنى، تنص مواده على أن كل المواطنين، سواء، بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين، وتنص المادة الحادية عشرة منه على حق جميع المواطنين فى تولى المناصب والوظائف العامة ما دامت تنطبق عليهم الشروط القانونية بغض النظر عن أى اعتبارات أخرى.. والحقيقة أن هذا الحق لم ينشئه دستور ٢٠١٤ ولا دستور ٢٠١٢، ولا دستور ١٩٧١ ولا دستور ١٩٥٦، ولا دستور ١٩٢٣، وإن كانت كل هذه الدساتير أكدته ووضعت الإطار القانونى له، هذا الحق نشأ منذ تأسيس الدولة المصرية الحديثة، وقد كان لدينا رئيس وزراء مسيحى هو نوبار باشا الذى أدى خدمات جليلة للدولة المصرية عبر عقود طويلة، وكان لدينا بطرس غالى باشا الذى تحفظ البعض على مواقفه لا على ديانته، وكان لدينا رئيس مجلس نواب من رموز الوطنية المصرية هو سينوت حنا باشا، وكان لدينا وزراء مسيحيون ويهود أيضًا «وزير المالية يوسف قطاوى».. وفى حرب أكتوبر كان الفريق فؤاد عزيز غالى قائد الفرقة الثانية وأحد أبطال العبور والمقدم باقى زكى يوسف صاحب فكرة إزالة الساتر الترابى بالمياه.. إن كل هذا من تحصيل الحاصل ولكن ربما يبدو من المفيد تذكير الجهلاء والمغرضين به، إن الوضع القانونى والدستورى فى مصر لم يتغير، لكن ما حدث أن الدولة فى عقود ضعفها، وهوانها على نفسها وعلى غيرها، كانت تميل لمهادنة المتطرفين، أو تخاف نفوذهم، أو تتقى شرهم، أو يدخل بعض مسئوليها فى صفقات معهم، وكان ينتج عن هذه المهادنات إهدار حق المواطنين فى المساواة ولم يكن ذلك مقتصرًا على المواطنين المسيحيين فقط، ولكن على شرائح أخرى من المواطنين، لأن الدولة لم تكن تملك القدرة ولا الرغبة فى تطبيق صحيح القانون.. لقد لفت نظرى وأنا أقرأ سيرة المستشار بولس فهمى أنه كان عضوًا فى المحكمة الدستورية العليا حتى ما قبل صدور دستور ٢٠١٢ المعروف بدستور الإخوان، الذى قلص عدد أعضاء المحكمة الدستورية العليا، ليخرج منها المستشار بولس فهمى والمستشارة تهانى الجبالى، والمعنى أن الدستور الذى وضعه الإخوان أقصى قاضيًا قبطيًا وقاضية امرأة من تشكيل أعلى محاكم مصر، ولا أعرف هل كان ذلك تدبيرًا من الجماعة المعادية للأقباط وللمرأة أم محض صدفة، لكننى أعرف أن المستشار الجليل عاد للمحكمة بعد سقوط حكم الإخوان فى عام ٢٠١٤ وأنه أصبح رئيسًا للمحكمة الدستورية بقرار من رئيس الجمهورية الذى يحرص على المساواة بين جميع المصريين، ويعرف بأنه لا يخضع لأى ابتزاز من أى نوع.. ومن أمثلة عدم خضوعه للابتزاز أنه يحرص على مشاركة الأقباط المصريين احتفالهم بعيد الميلاد المجيد بشكل سنوى مهما كانت مشاغله، وهو فى هذا يختلف عن الرئيس الأسبق مبارك الذى ظل ثلاثين عامًا من حكمه لم تطأ قدمه أرض الكاتدرائية فى أى مناسبة، لا لأنه كان متطرفًا، ولكن لأنه كان يخاف من المتطرفين ويخضع لابتزازهم وينخرط فى موازنات معهم، ولأنه لم يكن حريصًا على فكرة المساواة بين المواطنين من الأساس.. أما البعد الثانى فى المسألة فخاص بمؤسسة القضاء المصرى وهى مؤسسة شامخة، أراد البعض أن يرسم لها صورة كمؤسسة مغلقة، يتم توارث المناصب فيها بين عائلات محددة، ويرفض كهنتها دخول المرأة لساحتها، ولا اعتلاء القضاة الأقباط للمناصب الكبرى فيها، ويرعى بين جنباتها بعض المتطرفين متسترين بثوب القضاء العظيم، وكأنهم دولة داخل الدولة، لكن هذه لم تكن حقيقة قضاء مصر العظيم، فرأينا قرارات ثورية فى طرق قبول الأعضاء الجدد فى الهيئات القضائية وتم الاتفاق على منح كل شاب حيثيات قانونية لرفضه أو قبوله فى منصب معاون النيابة العامة، وعلى حقه فى اللجوء للقضاء للطعن على هذه الحيثيات، واستقال وزير العدل الذى رفض التحاق أبناء البسطاء بالسلك القضائى، ومكنت المرأة المصرية من الالتحاق بجميع المناصب والهيئات القضائية بدلًا من حصرها فى النيابة الإدارية فقط، وفتح الطريق لقاضٍ مسيحى ليصبح رئيسًا للدستورية العليا علمًا بأن واحدًا من رؤساء المحكمة السابقين أصبح رئيسًا لمجلس الشيوخ، وواحدًا آخر أصبح رئيسًا لمجلس النواب، وكلاهما قاض جليل ومسئول يملأ مركزه.. فمن يدرى ماذا تخبئ الأيام فى المستقبل للمستشار بولس فهمى إسكندر الذى نعتبر تعيينه خطوة رمزية لتأكيد المساواة بين المصريين فى عهد لا يخاف ولا يخضع للابتزاز باسم الدين أو باسم أى شىء آخر.