نهاية زمن الغش
تابعت مع الملايين مشهد تجمهر بعض أولياء الأمور لإلحاق الأذى بمدرسة فاضلة رفضت السماح لأبنائهم بالغش.. إن ما لفت نظرى أن سيارة البوليس كانت حاضرة وهيبته كانت موجودة ولعل هذا ما جعل إبداء الأهالى غضبهم يتوقف على الصياح، أو توجيه شتائم تضيع المسئولية عنها فى الزحام.. أو الدعاء على المدرسة باعتبار أن منعها التلاميذ من الغش بمثابة إلحاق الأذى بهم.. ومع ذلك أمتلك الشجاعة لأقول إننى أتفهم موقف أولياء الأمور هؤلاء، وأمثالهم فى مئات القرى والأحياء المختلفة يمارسون ممارسات شبيهة.. وأقول إن هؤلاء نتيجة لا سبب، وإن ما يفعلونه هو «العرض» لا «المرض».. إن هؤلاء ضحية نصف قرن كامل تم فيه تخريب القيم فى المجتمع وإن شئنا الدقة ٤٩ عامًا بدأت من نهاية حرب أكتوبر ١٩٧٣.. بل إننى أعترف لكم أننى مارست الغش ذات مرة وحيدة فى امتحانات كلية الإعلام.. أما لماذا فعلت هذا؟ فلأننى كنت معجبًا أيما إعجاب بمسرحية مدرسة المشاغبين!! لقد كنت معجبًا جدًا بالمشهد الذى يغش فيه زعيم الطلبة المحبوب «بهجت الأباصيرى» من برشامة طويلة جدًا تمتد لما يزيد على المتر!! أليس ذلك شيئًا مغريًا بالتقليد لمراهق مثلى.. مسرحية خفيفة الظل، أبطالها كلهم محبوبون جدًا، تدور كلها فى الفصل، حيث يتنمرون على مدرسيهم، ويجبرون المدرس «الملوانى» على خلع البنطلون، ويصيبونه بالجنون!! بل إنهم يسخرون من ناظر المدرسة، ويحاولون التحرش بالمدرسة الحسناء لولا أنها تجيد فنون المصارعة.. إن كل هذه السلوكيات السلبية كانت بمثابة رسالة مسممة، تمتد طوال أحداث المسرحية تقريبًا، فيما عدا مشهد النهاية السريعة الذى يعلن فيه الأبطال توبتهم وانصلاح حالهم.. لكنه مشهد غير مضحك للأسف، لذلك لم يؤثر فى ولا فى أى أحد شاهده.. إنه يشبه مشهد وصول البوليس والقبض على العصابة فى الأفلام العربية، إن المشاهد المضحكة فى المسرحية هى التى يمارس فيها التلاميذ الشغب والتنمر والتحرش ضد «الأبلة عفت»، إننى وملايين التلاميذ من جيلى ومن الأجيال التى تلته كنا نريد أن نكون محل هؤلاء الأبطال خفيفى الظل، أن نعامل مدرسينا بنفس الطريقة، أن نغش كما فعل بهجت الأباصيرى، لقد غش ولم يعاقب، بل إنه نجح جدًا وأصبح شهيرًا جدًا، وثريًا جدًا، ومحبوبًا جدًا.. فلماذا لا نغش مثله؟.. لقد ساعد على هذا أن المسرحية تعرض بكثافة فظيعة، فى الأعياد والمناسبات والسهرات.. وكل مناسبة تتجمع فيها الأسرة.. فلماذا لا نقلد «بهجت الأباصيرى» و«مرسى الزناتى» وكلاهما محبوب ووالداهما من الأثرياء؟؟.. إن الطالب الوحيد الملتزم فى المسرحية «أحمد» أو «أحمد زكى» يبدو وكأنه «غلبان» وثقيل الظل، وقليل الحيلة، ونحن لا نريد أن نكون مثله، نحن نريد أن نكون مثل «بهجت الأباصيرى» أو نائبه «مرسى الزناتى» على الأقل، لقد ساعد على قناعتنا بضرورة إساءة معاملة المدرسين وجواز اللجوء للغش، إن التعليم بدأ فى الانهيار، وغالبية المدرسين كانوا يجبرون الطلاب على الدروس الخصوصية لأن رواتبهم لا تزيد.. فلماذا نحترم المدرس أو التعليم كله إذن؟؟.. ثم إننا اكتشفنا أن العمل لم يصبح هو الطريق الوحيد للنجاح، لقد اتضح أن هناك طرقًا أخرى كثيرة اعترفت بها الدولة، كأن تحصل على قطعة أرض بسعر جنيه واحد تتحول بعدها لملياردير كبير، أو تحصل على مئات الملايين من البنوك وتمتنع عن السداد بحجة أنك خسرت هذه الملايين كلها فى عدة شهور!! أو تصبح داعية دينيًا بعد أن تقرأ كتابًا واحدًا فى الرقائق وتتدرب كثيرًا على طريقة إلقاء القصص التى استخرجتها منه، أو تتاجر فى الآثار، أو تصبح «محجوب عبدالدايم» فى أى مجال تسنح لك فيه هذه الفرصة، فلماذا تتعلم بجد إذن؟؟ لقد كانت هذه الأفكار تتسلل لعقول الملايين من المصريين رويدًا رويدًا طوال العقود الماضية، وكان كل ما حولهم يؤكد هذه المعانى حتى ولو لم يدركها البعض بكل هذا الوضوح.. إن هذا الجيل الذى أنتمى إليه، وأتحدث عنه أصبح هو ولى الأمر الذى يقف أمام مدرسة القرية ليسهل الغش لأبنائه، إنه يريد أن يحصلوا على شهادة لا أن يتعلموا.. وهو يرى أن هذه الشهادة هى الشىء الوحيد الذى يمكن أن يأخذه من البلد.. إنه لم يأخذ قطعة أرض، ولا قرضًا، ولا رخصة فرن، ولا وظيفة، ويريد أن يشعر بأنه أنجز شيئًا فى حياته وحصل أبناؤه على شهادة ولو بطريق الغش.. الخطأ الوحيد لهذا الأب أو الأم أنه لم يدرك أن مصر تتغير، وأن الفساد يتراجع، وأن هناك من يبنى البلد بإيمان وقناعة، وأن التعليم نفسه يتطور، وأن فساد وهوان العملية التعليمية اللذين كانا يدفعان للغش ويبررانه لم يعودا واقعًا مسيطرًا، وإنما واقع هش، يتم تغييره وخلخلته، وإصلاحه، وبالتالى فإن عقاب المخطئ فى هذه الواقعة وغيرها قد يكون رسالة ردع، وتوعية الآباء بدور التعليم ومفهومه الحقيقى قد يكون رسالة توعية، وإطلاق الثورة الثقافية والاجتماعية الشاملة التى تحدثنا عنها كثيرًا قد يكون ضرورة تؤكدها الحوادث واحدة تلو الأخرى فى كل مجال من مجالات الحياة فى مصر.. مصر تتغير.. وإلى أن يدرك الناس هذا علينا أن نضرب على يد المخطئ حتى يلتزم طريق الصواب، وعلى يد الغافل حتى ينتبه، وعلى يد الفاسد حتى يعتدل.. وعلى الله قصد السبيل.