قيمة مصر
التأكيد على قيمة مصر هو مثل التأكيد على أن الشمس تشرق من المشرق، هناك أمور بديهية لا تحتاج لتأكيد.. حقائق يعلمها من يكرهون مصر قبل من يحبونها.. جزء من عظمة مصر أنها كانت دائمًا مشعل نور فى محيطها وإقليمها.. فى عصر ما قبل التاريخ كانت مصر أول حضارة فى العالم.. هذه حقيقة وليست شعارًا سياحيًا، رغم أننا كلنا كنا نمر على هذه الحقيقة بأسى فى شبابنا ونقول كيف لم نعد كذلك، فى عصور الخلافة الإسلامية تلقفت مصر العالم الإسلامى قبل أن يخر صريعًا تحت ضربات الصليبيين والتتار، هذه حقيقة حتى لو بدت لك شعارًا أو «أكليشيه».. لم يكن هناك بلد فى العالم الإسلامى يصلح لأن يكون قاعدة للدفاع عن الخلافة سوى مصر، صلاح الدين الأيوبى ورفاقه كانوا قادة عسكريين محليين فى إمارة صغيرة على أطراف العراق وتركيا.. لكنه عندما جاء إلى مصر.. أصبح «الناصر صلاح الدين».. نفس الأمر مع مقاتلين مثل «سيف الدين قطز» و«الظاهر بيبرس» كانوا عبيدًا يباعون فى الأسواق، لكنهم عندما جاءوا إلى مصر أصبحوا أبطالًا وصناعًا للتاريخ، وأوقفوا زحف التتار بعد أن امتهنوا عاصمة الخلافة العباسية وأسقطوها، وأهانوا كل مقدس فيها، ولم تعد الخلافة إلا بعد انتصار القاهرة وانتقال الخلفاء العباسيين إليها كأصحاب سلطة روحية يستمدونها من كونهم من نسل الرسول «ص»، نفس الأمر تكرر مع محمد على باشا الذى كان ضابطًا ألبانيًا فى حامية عثمانية محلية، لكنه فى مصر وبمصر أصبح واحدًا من أعظم الحكام فى التاريخ، وندًا للخليفة العثمانى، ومؤسسًا لإمبراطورية كبيرة وبانيًا لنهضة استمرت آثارها حتى الآن.. لا يعرف الكثيرون أن الجيش المصرى بقيادة إبراهيم باشا كان يحمل معه المساعدات وبشائر الحضارة للبلدان التى يدخلها، حتى الآن ما زال أهلنا فى الشام يسمون النقود بـ«المصارى» نسبة إلى العملات التى كان يستخدمها الجيش المصرى بقيادة إبراهيم باشا «أبوأصبع» كما يعرفه بسطاء المصريين.. أما حفيده إسماعيل الذى نحكم عليه حكمًا سلبيًا فى مناهج التاريخ الرسمى فقد جعل مصر قطعة من أوروبا، وبنى عاصمة تنافس باريس حرفيًا وليس على سبيل التشبيه، كان لدينا مجلس شورى نواب فى وقت لم تكن فيه دول كثيرة تعرف معنى كلمة دولة من الأساس، فضلًا عن معنى المؤسسة السياسية.. عظمة مصر تنبع من كونها مصر ولا ترتبط بأى عهد.. فى الستينيات كانت مصر تحكم عالمها العربى بقوة الإيمان بها وبما تطرحه.. فى العراق.. وفى سوريا.. وفى ليبيا وفى اليمن.. وفى السودان.. كانت الثورات تنجح إذا أعلن من قاموا بها عن أنهم يسيرون على نهج مصر وقيادة مصر.. هذه هى الحقيقة حتى وإن أخفاها عنا البعض.. أو ظن البعض أنه يجب إخفاؤها.. عندما اختارت مصر طريق السلام.. تبعها العرب بعد عقود وأدركوا أنها كانت على حق متأخرًا.. «رغم اعتراضى على تفاصيل وتكتيكات كثيرة».. حتى فى ظواهرنا السلبية مثل الإسلام السياسى.. كنا مؤثرين فى العالم الإسلامى كله.. مصر بلد الأزهر أكبر جامعة إسلامية فى العالم.. وشيخه هو إمام أهل السنة على مدار قرون.. مصر حاضرة الفن والإبداع، لا يوجد أديب عربى حصل على نوبل إلا نجيب محفوظ، ولا يوجد عربى واحد حصل على نوبل سوى أربعة مصريين.. طبيعى أن تساعد مصر كل من حولها.. لأن هذا قدرها، وهى تفعل هذا طوال الوقت بطرق مختلفة، فمن يحتاج العلم تمنحه العلم، ومن يحتاج الدعم والمساندة تقدمهما له وفق رؤيتها، ومن يحتاج الخبرة والتمويل لإعادة الإعمار تقدمهما مصر له عن طيب خاطر، وكرم نفس، نفوذ مصر منع الأمور فى ليبيا من السير نحو الهاوية، وقاد إلى استقرار الأمور فى غزة، ولَم شمل الفرقاء فى سوريا، وألقى ظلال الدعم والمحبة على الأهل فى الخليج، ومد أواصر النصح لشعب العراق العظيم، وأعاد احتضان الجزائر.. وهذا دور مصر وقدرها.. وهو دور تفرضه حقائق التاريخ والجغرافيا ولا علاقة له بتراكم الثروة.. أو الوضع الاقتصادى وإن كان الاقتصاد يمكن أن يدعم أدوار الدول، لكنه فى الحقيقة لا يخلقها.. إننا عندما نقرأ فى كتب السيرة نعرف أن «أبوطالب» عم الرسول «ص» كان أفقر إخوته.. لكنه كان زعيمهم وسيدهم وسيد قريش.. ليس للأمر علاقة بالنقود بقدر ما له علاقة بالحكمة والعلم والرزانة والحضارة.. وستظل مصر تفرح لكل خير للآخرين وتدعمهم فى اتجاه مزيد من التطور والتقدم سواء بخبرائها أو بمعلميها أو بمهندسيها أو بمثقفيها وفنانيها.. مصر تفعل هذا منذ عشرات السنين وستستمر فى فعله عن طيب خاطر ومحبة لأن قدر الكبير بأن يظل كبيرًا.