المصريون يستعيدون الثقة
كلنا سعداء للغاية بنتائج منتخبنا القومى فى بطولة كأس الأمم الإفريقية، هناك روح قتالية عالية، وانسجام بين أعضاء الفريق، وانتصار كامل لكل ما هو معنوى على ما هو مادى وإعلاء لقيمة الانتماء لمصر على ما عداها.. هذا الانتماء عبّر عن نفسه فى لقطات متتالية.. منها كلمة اللاعب العالمى وفخر مصر محمد صلاح قبل مباراة ساحل العاج، ومنها صور التراحم الإنسانى بين لاعبى المنتخب الذين يلعبون فى مراكز متنافسة، أو فى أندية متنافسة، ومنها الأداء البطولى لحارسى المنتخب المصرى وإصرار كل منهما على أن يلعب رغم إصابته، الذى وصل إلى قمته فى المباراة الأخيرة برفض حارس المنتخب نصيحة طبيبه بالخروج وإصراره على ذلك، لولا أمر حاسم له من المدير الفنى.. هذه الروح العالية هى خصيصة فى المصريين، ولكنها تظهر فى الأزمات والملمات فقط، وما نريده أن تكون هذه الخصيصة دائمة التواجد، أو موجودة طوال ٢٤ ساعة فى اليوم، لقد قارنت فرحة المصريين بمنتخبهم طوال الأسبوع الماضى بحالة بعضهم على وسائل التواصل طوال الأسبوع الذى سبقه، فما إن أعلنت نتيجة مباراة «ساحل العاج» و«الجزائر» وتقرر أن يقابل مصر «ساحل العاج» حتى انبرى البعض للتعبير عن خوف ممزوج بسخرية، كان لسان حال البعض أنه إذا كان فريق «ساحل العاج» قد هزم الجزائر وهو حامل اللقب.. فماذا سيفعل بنا؟؟ كان هذا خوفًا مشروعًا، ومبنيًا على ضيق الناس من أداء المنتخب فى بعض مبارياته قبل أن تتحقق حالة الانسجام بين كل مكوناته، لكننى لسبب ما أحسست بأن الحالة تخطت الخوف المشروع للسخرية الممجوجة، وبدا وكأن هناك من يريد «تكسير مجاديف» المصريين، والزراية بحلمهم المشروع فى الفوز، رغم أن منتخب مصر هو أكثر منتخب إفريقى فاز بالبطولة على الأقل خلال العقدين الماضيين.. ولم أعرف هل تدخلت الكتائب الإلكترونية «إياها» لنشر هذه الحالة أم أنها انتشرت بشكل تلقائى، بسبب الخوف من ناحية، وبسبب ظاهرة استنساخ المنشورات والمواقف بين مستخدمى فيسبوك من ناحية أخرى، أو بسبب رغبة البعض فى «الاستظراف» وإثبات الوجود من ناحية ثالثة؟.. لكننى بعد تفكير وجدت أن هناك سببًا رابعًا يضاف إلى هذه الأسباب الثلاثة، وهو أننا كمصريين ما زلنا فى مرحلة تعاف طويلة، نحن نتعافى من عقود لم نكن فيها بخير، لم تكن مصر تحتل فيها المكان اللائق بها، لقد ظللنا سنوات طويلة بعد النكسة فاقدين الثقة بأنفسنا، لم نتجاوز طعنة الهزيمة أبدًا، رغم أننا حققنا النصر فى ١٩٧٣.. لكننا لم نتجاوز هزيمتنا، وظهرت على السطح فئران كانت قد اختبأت فى جحورها سنوات طوالًا، ضخموا من حجم الهزيمة، وشوهوا كل منجزات الشعب والدولة المصرية، وطعنوا فى ثورة يوليو التى قدمت الكثير لبسطاء مصر، وبالتالى طعنوا فى شرعية الدولة المصرية نفسها فى السبعينيات التى ظهروا فيها، وهو ما أدركه متأخرًا الرئيس السادات، وهاجم بسببه جماعة الإخوان فى آخر خطبه قبل اغتياله بشهر واحد.. عملية هز ثقة الشعب بنفسه استمرت أربعة عقود على الأقل، أنفقت عليها عشرات المليارات، طبعت آلاف الكتب، والصحف، جُندت أقلام تبدو من الخارج كبيرة، تم خلط ما هو حق «وجود أخطاء كبيرة» بما هو باطل «إهالة التراب على حلم مصر بالنهضة».. وفى أثناء ذلك كان الواقع يتشكل وفق حقيقة خروج هذه الفئران من جحورها وامتلاكها أسباب القوة والإرهاب، تم اغتيال السادات وجاء الرئيس مبارك، أدرك أن الصدام مع الأفاعى سيقود مصر لحرب أهلية كاملة، لجأ إلى الاستيعاب، والمقايضة، والمهادنة، فكانت النتيجة أن واصل هؤلاء بث سمومهم، وأهمها هز ثقة المصريين فى نفسهم، إشعارهم بأن حياتهم ليست جيدة، بأنهم مقصرون ولا يستحقون الأفضل سوى إذا طبقوا الشريعة «اتضح أن هذه أكبر كذبة فى التاريخ».. ولا يعلم سوى الله هل كان مبارك مدركًا هذا أم لا؟.. لكن المؤسف أنه فى كثير من خطاباته كان ينفذ نفس استراتيجية الفئران، ويتحدث عن الشعب وكأنه عبء عليه، ويكرر عبارة «أجيب لكم منين؟» وهو ما استدعى انتباه الأستاذ هيكل، فعلق قائلًا إن رئيس مصر فى الستينيات كان يخاطب الشعب قائلًا «أيها الشعب المعلم»، فى حين أن رئيس مصر فى التسعينيات يخاطب الشعب قائلًا «أجيب لكم منين؟».. بشكل عام فقد المصريون ثقتهم الجمعية فى أنفسهم بسبب سموم المتطرفين، وغياب مشروع قومى، وانعدام الإنجازات، وكثرة شائعات الفساد، وعدم وجود سياسة خارجية تكرس دور مصر فى إقليمها، ووصول الأمر فى السنوات الأخيرة من حكم مبارك إلى حالة الإدارة بالقصور الذاتى.. ولا يعنى هذا أنه لم تكن هناك نقاط مضيئة، أو إنجازات جزئية، كان هناك، لكن النتيجة النهائية كانت أكثر من سيئة، وأظن أننا دخلنا منذ ٢٠١٤ فى مرحلة طويلة نسبيًا، وأننا أوشكنا على الانتهاء من مرحلة التعافى لتبدأ مرحلة الانطلاق، بعد أن ظهرت لنا عشرات الدلائل والبراهين على أن المصرى إذا شاء فعل.. وسيفعل المصريون الكثير.