«الأستاذ».. قواعد المحبة والوداع فى شريط سينمائى فاتن
مرة أخرى أجدنى مشدودًا لمشاهدة فيلم جونى ديب الأخير، «الأستاذ» أو «the professor»، والكتابة عنه، وهو واحد من الأفلام التى لا تمل من مشاهدتها مرات ومرات، أو تشعر بحالة من التشبع، فتشاهده فى كل مرة وكأنها هى المرة الأولى، تتسرب إليك متعة الأداء، والحوار، وزوايا التصوير، وإيقاع الأحداث، وتجد روحك وقد انسحبت إلى داخل القصة التى تشاهدها، وكأنك واحد من أبطالها.
والحقيقة أننى أعتبر تلك الحالة هى المقياس الأهم لنجاح أى شريط سينمائى، أو عمل فنى أو حتى أدبى، أن يجذبك إليه رغم انتهائك منه، ويظل يعيدك إلى مربعه مرات ومرات، تهفو إليه نفسك، مثل أغنية لأم كلثوم، أو عبدالحليم حافظ، أو حتى عبدالباسط حمودة. مثل رواية لنجيب محفوظ أو صبرى موسى أو عبدالحكيم قاسم، ومثل قصة ليوسف إدريس أو تشيكوف. فتظل تعيدها، وتعود إليها، دون كلل أو ملل، تقرأها، أو تستمع إليها بشغف واستمتاع لا حدود له.
هذه الحالة تكررت معى، ومع الكثير من الأصدقاء فى أفلام عديدة، منها «عطر امرأة»، «جسور ماديسون»، «الأب الروحى»، «شوكولا»، «فورست جامب»، «أرض الخوف»، «الكيت كات»، و«البوسطجى»، وغيرها الكثير والكثير من الأفلام المهمة التى لا يتسع المجال لذكرها.
فى واحد من أهم مشاهد فيلمه الفاتن، يوجه النجم جونى ديب «ريتشارد»، أستاذ الكتابة الأدبية بإحدى الجامعات، حديثه إلى نخبة مختارة من تلاميذه، قائلًا ما معناه إننا «فى كل لحظة تمر بنا، نؤلف سطورًا جديدة فى قصة حياتنا، نؤلفها جملة جملة، وكل ما علينا هو أن نجعلها قصصًا جديرة بالقراءة، أو على الأقل لتكن ممتعة، أو مثيرة للاهتمام».
الفيلم كان عنوانه الأصلى «ريتشارد يقول وداعًا»، «Richard Says Goodbye»، ولكنه تغير قبل بداية عرضه بأيام قليلة، وإن كنت أظن أن العنوان الأصلى أكثر توفيقًا، وتعبيرًا عن محتوى الفيلم، لكن ربما لعبت اعتبارات أخرى دورًا فى التغيير، أظن أن صناع الفيلم أدرى بها، أما مبررات ظنى هذا فتأتى مما أعتقد أنه الرسالة النهائية، أو الأهم للفيلم الذى تدور أحداثه حول أستاذ جامعى يواجه حقيقة أن كل ما بقى له فى الحياة هو ستة أشهر، فيقرر أن يودع الدنيا بطريقته الخاصة، دون ضجيج، ودون ألم، وأن يجعل من درسه الأخير، هو درسه الأفضل، والأهم، والأبقى، وهو الدرس الذى نتابعه على مدى ٩٠ دقيقة، هى زمن الفيلم، الذى نجده أيضًا فى إحدى العبارات الملهمة التى يلقيها ريتشارد على تلاميذه ممن يبدأون طريقهم على درب الكتابة والإبداع الأدبى: «أنتم هنا لكى تعيشوا حياتكم المقدرة لكل منكم، فعشها كما تحب، أو كما يجب أن تكون، لا تكن مجرد كائن موجود.. عش».
والمتابع لمسيرة النجم جونى ديب السينمائية، يعرف جيدًا أنه ربما كانت هذه واحدة من المرات القليلة التى يمكن أن تراه هو شخصيًا على الشاشة، كرجل عادى، يحب، ويكره، ويتألم، ويسب، ويلعن، ويرقص مذبوحًا من الألم، ليس ساحرًا، ولا قرصانًا مجنونًا، ولا صاحب مصنع شوكولاتة ملتبسًا، ليس مصاص دماء، ولا قاتلًا، ولا رجل عصابات، ولا أى شخصية كرتونية خيالية أخرى.. هنا جونى ديب يلعب دورًا يُشبه جونى ديب نفسه، بأزماته مع شركات الإنتاج، واتهامات الاستغلال، وغيرها من المشاكل التى أضعفت من نجوميته، ودفعته إلى اللجوء إلى نوعية الأفلام قليلة التكاليف، وربما لهذا كان اختياره فيلم «ذى بروفيسور» على وجه التحديد، حيث يمكنه أن يؤسس لقواعد الوداع، أو كيف يمكنك أن تقول وداعًا لكل ما أحببت، وما ارتبطت به، وما تقيدت به طوال حياتك، فهو هنا بمجرد علمه بما تبقى له فى الحياة، يقرر تجاهل جميع قواعد المجتمع الخانقة، والتحرر منها، ومن الحياة، حتى إنه عندما تسأله زوجته التى تخونه مع رئيسه فى الجامعة: «ماذا حدث لنا؟»، يجيبها مندهشًا، وهو يقترح نخبًا بعينين حزينتين وداميتين: «ماذا حدث لنا؟!.. الحياة».
هكذا.. هى الحياة، لا هزيمة مطلقة، ولا نصر دائمًا، دائرة من الأوهام والتصورات، حكايات تبدأ لتنتهى، وأيام لا تعرف كيف بدأت، لكنك تعرف تمامًا متى وكيف تنتهى.. مواقف، وقصص، وحواديت، ولكن لا شىء منها يمكن الوثوق به، لا شىء يحمل فى جنباته ضمانات البقاء أو الاستمرار.
يمكنك أن تظن بنفسك الظنون، من حيث الأهمية، والحضور، والتأثير، أو ما شابه من تصورات، لكنك تظل مجرد كائن لا تعرف كيف يراك الآخرون؟ ولا كيف يريدونك فى مسيرتهم؟ ما غايتهم من القرب؟ وماذا يتبقى إن طالت المسافات؟ من أين تبدأ المحبة؟ وكيف تتحول الأيام؟.
لهذا فربما كان من المناسب هنا أن أعترف بأننى أحببت جونى ديب فى شخصية ريتشارد، أكثر من أى شخصية أخرى قدمها وحققت له جماهيرية طاغية، أحببته وهو يرسم قواعد الوداع بنعومة، وقسوة، وهدوء بالغ، أحببته وهو يكسر كل ما تعارفت عليه المجتمعات من قواعد، وأصول، واعتبارات خانقة، فماذا يعنى أن ترتكب خطأ ما ثم تعيده؟.
هذه ليست هى نهاية العالم.