دعوة لمقاومة التسرع فى إصدار الأحكام
كان «جنجح» إحدى شخصيات الرائعين أحمد رجب ومصطفى حسين، كان مواطنًا عاديًا تبدو عليه ملامح السذاجة التى تصل حد الغباء.. كانت أذناه طويلتين وشفاهه مدلاة، ويرتدى طاقية تشبه قبة مجلس الشعب، كان غبيًا بشكل ما ويرمز إلى مواطن يتحدث فى أمور لا يعلم عنها الكثير.. اختفت شخصية «جنجح» مع مرور الوقت من الكاريكاتير.. لكن التعبير ظل مستخدمًا للتعبير عن المكابرة بغير علم، وادعاء المعرفة دون أساس حقيقى، والتصدى للإفتاء فى أمور لا يعلم عنها صاحبها شيئًا، وأذكر أن صديقى الكاتب الساخر الكبير أكرم القصاص اشتق الفعل «جنجح» من شخصية «جنجح» الشهيرة كلما أراد وصف من يفتى بغير علم.. وقد ألح هذا المعنى على ذهنى كثيرًا فى السنوات الأخيرة كلما رأيت تصاعد مؤشرات التصدى لأمور لا يعلم عنها صاحبها شيئًا.. وقد عدت لمعاجم اللغة العربية أبحث عن أصل فصيح لهذه الكلمة والفعل المشتق منها فلم أجد.. ويبدو أنها كانت نحتًا عبقريًا فى اللغة للأستاذ أحمد رجب ومصطفى حسين رحمهما الله.
ورغم أننى من مدرسة فكرية تنحنى احترامًا لهذا الشعب العريق وترى أنه توارث جينات الحكمة عبر آلاف السنين.. إلا أن هذا لا يمنعنى من رصد ظاهرة اجتماعية سلبية تصاعدت حدتها مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعى.. وتنامى ظاهرة نسخ المنشورات، وتكرار كل مستخدم لرأى قرأه على صفحة مستخدم آخر.. وإعادة صياغته حرفيًا وكأنه من بنات أفكاره! دون أن يعرف دوافع الكاتب الأول، وهل هو مواطن مستقل يعبر عن رأيه، أم عضو فى كتيبة إلكترونية لها أهداف معينة.. وما لاحظته أن المواطن «الجنجاح» ليس مغرضًا، ولا عضوًا فى كتيبة إلكترونية، ولا هو معارض من الأساس.. هو مواطن حسن النية تمامًا، وبلا موقف غالبًا، لكنه مصاب بداء الفتوى بغير علم، أو النقل من آراء يفتى أصحابها بغير علم، ولا دافع له فى هذا سوى إشباع غريزة «الفتوى بغير علم» ومناقشة الأمور، وإبداء الرأى فى كل الأشياء، سواء كان يفهم فيها أو لا يفهم.. لقد تذكرت قبيلة «الجناجحة» المصريين مؤخرًا بمناسبة افتتاح معرض القاهرة الدولى للكتاب، والذى يعقد الدورة الثالثة له فى مقره الجديد فى مركز المؤتمرات فى التجمع الخامس، وهو مقر مجهز على أعلى مستوى، نتج عن انتقال المعرض له زيادة ملموسة فى عدد الزائرين، ومبيعات الكتب، وتوافر سبل الراحة والمواصلات لكل من الناشرين والزوار، وما دفعنى لكتابة المقال أننى تذكرت حملة ضارية على فيسبوك شاركت فيها أعداد هائلة من «الجناجحة المثقفين» بعد إعلان خبر انتقال المعرض للتجمع الخامس، يدينون فيها هذا الانتقال، ويشجبونه بأقسى العبارات، وقد تطوع بعضهم فأفتى بأن هذه مؤامرة لا ريب فيها للقضاء على معرض الكتاب، وتدمير الثقافة المصرية، وإنهاك المثقفين أنفسهم، والدليل على ذلك هو نقل المعرض من مقره فى مدينة نصر إلى مكان بعيد مثل التجمع الخامس!!!.. ولا شك أن كل مواطن له الحق فى إبداء رأيه.. لكن ما يفرق بين المواطن العادى والمواطن «الجنجاح» أن «الجنجاح» سارع لإبداء رأيه دون أن يرى المقر الجديد للمعرض، أو يجرب الانتقال له ليعرف كم يستغرق زمن هذا الانتقال، أو يتعرف إلى المحاور والطرق الجديدة التى تربط أنحاء العاصمة المختلفة بالتجمع الخامس.. قبل أن يفتى ويعلن رأيه، رغم أن أى تفكير علمى لا يؤمن سوى بالتجربة كطريق وحيد للحقيقة.. لكن هذه طبيعة «الجنجحة» التى استشرت بين كثير من المواطنين والذين تشعل شرارتهم الأولى أعواد كبريت غير بريئة فى البداية، لكنهم لا يدركون ذلك.
نفس موقف «الجناجحة» من المهتمين بالثقافة، كرره حرفيًا «الجناجحة» المهتمون بكرة القدم منذ ثلاث سنوات تقريبًا، حين تحول ملايين المشاهدين لنقاد كرويين ينافسون المستكاوى وحجازى، وأفتوا جميعًا بضرورة رحيل المدرب العالمى «هيكتور كوبر» بعد أن قاد مصر للصعود لكأس العالم! وعقابًا له على صعود مصر لكأس العالم!! وانطلق «الجناجحة» الكرويون يتحدثون عن أن الرجل غيّر طريقة لعب المنتخب المصرى!! وأنه يمنع المنتخب من أن يكون ذا طابع هجومى.. وأنه أفقد المصريين متعة كرة القدم!! فى حين أن الرجل مثل أى طباخ ماهر.. كان يتعامل مع الخامات المتاحة له، ويوظف إمكانات اللاعبين لتحقيق أفضل نتائج ممكنة، وقاد مصر بالفعل لمباراة نهائى أمم إفريقيا، وصعد بها لكأس العالم، الذى لم تتخط أبدًا دوره الأول فى الحالات التى تمكنت فيها من الصعود للمسابقة من الأساس، لكن غدد «الجنجحة» أطلقت هرمونات «الفتى» فى أجساد المصريين فانطلقوا يرددون رأيًا أطلقه صاحب مصلحة فى رحيل الرجل، ويعايرونه بأنه «أكل الفتة».. فى إشارة سمجة لإعلان خفيف الظل عن أحد المطاعم شارك فيه الرجل.. وكان من نتائج هذه «الجنجحة» أن رحل الرجل بالفعل، وخسرناه، وجاء بعده مدرب لم يوفق فى مهمته، ورحل، ثم جاء مدرب عالمى آخر، فعل ما بوسعه، لكنه ما إن خسر مباراة حتى انطلق «الجناجحة» يطالبون بتغييره، وينسخون نفس المنشور بحذافيره، ويطلبون العودة لمدرب محلى، بعد أن طردوا المدرب المحلى وطالبوا بمدرب عالمى!! وهكذا دواليك.
ومن الثقافة والكرة إلى السياسة والشأن العام حيث انبرت طائفة من «الجناجحة» دون مبرر لانتقاد شبكة الطرق والمحاور فى العاصمة وفى أنحاء مصر المختلفة، دون أن يعرفوا شيئًا عن هذه الشبكة، أو علاقتها بمخطط تنمية مصر، أو ربط شرق العالم بغربه، أو مخطط مصر ٢٠٣٠، أو خطة تحويل مصر لمركز عالمى للطاقة أو للتجارة، أو علاقة ذلك بمشاريع منافسة تجرى فى المنطقة، والأهم دون أن يستخدموا هذه الطرق والمحاور ويروا انعكاسها على حياتهم هم شخصيًا، وقد سارع كثيرون منهم للإشادة بالإنجاز الذى حدث، وإبداء الإعجاب والانبهار به، وهو ما يجعلنى أهمس لنفسى قائلًا «ما كان من الأول».. ولكن الرجوع إلى الحق بشكل عام أفضل من المكابرة، وهو ما يميز بين المواطن حسن النية حتى وإن كان يتسرع فى إصدار الأحكام، وبين من يعارض لمصلحة مادية أو لكونه عضوًا فى لجنة إلكترونية أو حتى وفاء لعقيدة سياسية يعتنقها وتجعله يتمنى فشل تجربة التنمية المصرية ويحاول تشويهها ليل نهار.. هذا الشخص لا يعنينى، ولا أضعه فى اعتبارى، ولا أخاطبه من الأساس، لكنى أخاطب أخى المواطن «جنجح» وأقول له تريث قليلًا من فضلك، ومارس التجربة العملية قبل أن تصدر هذا الكم من «الفتاوى» فى شئون العالم المختلفة.. من فضلك.. أرجوك.. إذا سمحت.. الحكاية «موش» ناقصة.