عود على بدء
من المفيد جدًا أن نتأمل فى تجربة مصر الحالية فى التنمية، أن نعرف ماذا نفعل بالضبط؟ ما هى فلسفة هذه التنمية؟ ما هى الرؤية السياسية والفكرية لها..؟ هذه الرؤية موجودة بكل تأكيد وآثارها ملموسة على الأرض، لكن الدولة لا تعلنها ولا تشرحها لاعتبارات متعددة منها تفضيل العمل على الكلام، ومنها الحذر من مؤامرات من أسماهم الرئيس «أهل الشر»، ومنها التاريخ المهنى للرئيس كرجل مخابرات كبير يرى أن الكتمان لا التصريح هو الأساس.. فى هذا الاجتهاد أقول إننا فى تجربتنا الحالية فى النهضة ليس أمامنا إلا العود على البدء، ونقطة «البدء» التى أتحدث عنها هنا هى نقطتان متشابهتان، أو نقطة واحدة تم تكرارها، النقطة الأولى كانت تجربة محمد على باشا مؤسس الدولة الحديثة فى مصر ١٨٠٥، والنقطة الثانية كانت تجربة ثورة يوليو ١٩٥٢ وفى القلب منها جمال عبدالناصر، وفى النقطتين كانت الدولة هى عماد تجربة النهضة، وكان للجيش المصرى دور محورى مع اختلاف الظروف، وكان التوصيف الاقتصادى لنمط التنمية هو «رأسمالية الدولة» حيث كانت الدولة تبادر لتأسيس صناعات، أو بناء منشآت، أو إقامة نشاط تجارى، ومن حصيلة هذه الأرباح تمول بناء مؤسسات الدولة، والمدارس، والمستشفيات، والقناطر، وجميع المشاريع التى نطلق عليها اليوم أسماء مثل «البنية التحتية» أو «حياة كريمة» أو «تنمية الصعيد» أو أى اسم إعلامى يعبر عن تنمية ما فى كل شبر من أرض مصر.. لقد تعرضت تجربة التنمية الأولى للتحجيم على يد الدول الغربية، ولكن آثار هذه النهضة ما زالت باقية حتى الآن رغم كل ما تعرضت له، وتعرضت تجربة التنمية فى الستينيات لضربة كبيرة بعد ١٩٦٧، التى كانت بلا شك نتيجة تقصير كبير، وحسابات سياسية خاطئة، لكن ملاحظاتى أن النكسة أو الهزيمة استخدمت لتشويه أشياء لا علاقة لها بها مثل نمط التنمية المستقلة، أو التوسع فى التصنيع، أو توسيع إطار الطبقة الوسطى وتضاعف عددها لآلاف المرات، إلخ.. وإننا بدلًا من أن نتلافى العيوب، ونبنى على ما هو موجود.. بددناه فى عقود سابقة، فبدلًا من فتح مجالات اقتصادية جديدة للمستثمرين سمحنا لهم بمجالات تنافس إنتاج شركات القطاع العام، ثم تركنا هذه الشركات تتدهور، ثم بعنا بعضها بثمن بخس لمستثمرين أجانب ومصريين، وقد أدت هذه القرارات إلى وضع اقتصادى هجين، فظاهرها رأسمالى، لكن باطنها عشوائى وفاسد، وبالتالى لم تثمر الثمار الاقتصادية المطلوبة بعد تطبيقها، وهو ما أدى لإطلاق أكبر حملة دعاية لزجة تقودها جماعة الإخوان، وتقول فيها إننا جربنا الحل الاشتراكى وفشل، وجربنا الحل الرأسمالى وفشل، وإنه آن الأوان أن نطبق الحل الإسلامى!! وكانت هذه أكبر حملة نصب باسم الدين فى تاريخ الإسلام، فالدين ليس مذهبًا اقتصاديًا ولا سياسيًا، كما كانت تروج جماعة الإخوان، لكنه طريق لإصلاح النفوس والقلوب، ومصر لم تجرب الاشتراكية التى ذهبت لحال سبيلها، ولم تجرب الرأسمالية الصحيحة التى تحكمها قواعد أخلاقية وتنافسية واضحة، والتجربة التى أثبتت نجاحًا فى مصر هى تجربة رأسمالية الدولة التى سمحت بتراكم كبير فى أصول الدولة المصرية منذ منتصف الخمسينيات وحتى نكسة يونيو، وسمحت بتنمية اقتصادية واجتماعية كبيرة، أما الهزيمة من إسرائيل فهى حساب سياسى خاطئ، يتحمله صاحب القرار، ولكنها ليست دليلًا على خواء مشروع التنمية المصرى، ولا على أنه كلام فارغ، حيث كانت إسرائيل وقتها أقرب لجبل جليد غاطس، ستغرق أى سفينة تصطدم به مثلما غرقت السفينة تايتنك، وقد شاء القدر وسوء التقدير أن تصطدم به مصر، لكن هذا ليس دليلًا على فساد تجربة التنمية المصرية ولا أنها كانت ترابًا تذروه الرياح، والدليل أن ثورة عنيفة قد قامت فى إيران وهى قوة إقليمية كبيرة، وأنها رفعت شعارات شديدة العداء لإسرائيل، ومع ذلك لم تحارب إسرائيل طوال ثلاثة وأربعين عامًا، ونفس الشىء حدث مع قوة إقليمية كبيرة أخرى هى تركيا التى لم ولن تحارب إسرائيل، ونفس الأمر تكرر مع قوى كبيرة ظهرت واختفت فى المنطقة.. وما أريد أن أقوله إن الهزيمة العسكرية استخدمت لتشويه نمط فى التنمية كان الأكثر ملاءمة لظروف مصر، وإنه أثبت نجاحًا كبيرًا فى تجربتين للنهضة فى مصر، كانت لهما عيوب بلا شك، لكن كانت لهما مميزات أيضًا.. وأقول إن الإخوان استخدموا الهزيمة من إسرائيل لتشويه تجربة الدولة المصرية فى التنمية والقفز عليها ومحاولة سرقة الدولة نفسها، بعد تمهيد استمر لـ٤٠عامًا وإن آثار دعايتهم بقيت فى عقول البعض حتى ممن يرفعون شعار العداء للإخوان، وإننا لا يجب أن نخاف من الاعتماد على مؤسسات الدولة فى التنمية إلى جانب القطاع الخاص، فالرئيس قارئ مدقق ودارس لتاريخ مصر، وهذا التدقيق يمكنه من الإمساك بالمميزات وتلافى العيوب، وهو جوهر ما نحتاجه فى التعامل مع تاريخ الدولة المصرية حتى لا نرمى تجربتى محمد على وجمال عبدالناصر بما ليس فيهما، استجابة لدعاوى المستشرقين الأجانب وأعداء فكرة الدولة نفسها حينًا، واستجابة لدعاوى المتطرفين وتجار الدين حينًا آخر.. والله أعلى وأعلم.