سنة التصنيع
إذا كان لى أن أعبر عن أمنية عامة للعام الجديد، فإننى أتمنى أن نعلنه عامًا للتصنيع فى مصر، ذلك أن التصنيع هو الصلاة التى لا بد أن تعقب الوضوء، والحقيقة أن مصر انطلقت فى مرحلة تمهيد طويلة منذ ٢٠١٤ استعدادًا لدخول مرحلة التصنيع.. فلا تصنيع دون بنية أساسية قوية، ومصادر طاقة مضمونة، وطرق تسهل نقل البضائع من مصانعها إلى منافذ التوزيع والموانئ المختلفة، ولا شك أن الدولة تتبنى سياسة واضحة فى دعم التصنيع، تعبر عن نفسها فى إنشاء المدن الصناعية المختلفة، مثل الروبيكى، ومدينة الأثاث فى دمياط، والمناطق الصناعية المختلفة وآخرها تلك التى تم افتتاحها فى الصعيد.. لكن الحقيقة أننا فى حاجة لبنية أساسية أخرى للصناعة، هى البنية الأساسية العقلية، والبشرية، فلا يمكن للتصنيع أن ينجح دون عامل بشرى، يمتلك المهارة، والإصرار، والقدرة، والإعداد المهنى الجيد، ولا يمكن للتصنيع أن ينجح فى مجتمع لا يحترم قيمة العمل، ويعتبرها أسمى قيم الحياة، ولا يمكن للتصنيع أن ينجح فى مجتمع لا يفكر بطريقة علمية، ولا يحترم البحث العلمى، فكل منتج صناعى جديد، هو وليد كشف علمى جديد، فأنت لا تشترى جهاز محمول جديدًا إلا إذا نجح البحث العلمى فى إضافة خاصية جديدة له تجعل شراءك لنسخة جديدة منه أمرًا منطقيًا ومقبولًا ومرغوبًا أيضًا.. إن الخطوة الأولى فى نجاح الصناعة هى «تطوير التعليم الفنى» وهو معنى غامض نسمع عنه منذ سنوات ولكننا لا نراه، ولا نرى أثرًا ملموسًا له فى الصناعة المصرية إلا فى حدود قليلة أو فى حدود نجاح ما هو ناجح أيضًا.. وقد عبرت الدولة عن اهتمامها بالتعليم الفنى بصيغ مختلفة، وأسست له وزارة مستقلة فى وقت ما، ثم ألغتها، ودمجته فى وزارة التعليم العادى، التى ينوء وزيرها بأحمال تجعل من مسألة تفرغه للتعليم الفنى مسألة محل نظر كبير.. والحق أننا نحتاج أن ننقل التعليم الفنى إلى ولاية وزارة الصناعة، وأن نلحق معهدًا فنيًا بكل مصنع ناجح، ليكون التعليم عمليًا، وتكون «العينة بينة» كما يقول المثل العامى، فليس فى الأمر كيمياء ولا يحزنون، ونحن لن ندخل مرحلة التصنيع إلا بعد أن نقنع عشرات الآلاف من الهائمين على وجوههم فى شوارع مصر المختلفة، يقودون مركبات التوكتوك، بأن عليهم أن يتحولوا إلى عمال، يساهمون فى إنتاج بضائع يتم تصديرها، أو استهلاكها فى السوق المحلية، ويضاف ناتج عملهم إلى الناتج القومى المصرى، وما ينطبق على الفئة الأقل تعليمًا من سائقى التوكتوك، ينطبق على الفئة الأعلى تعليمًا، من الدارسين فى كليات الآداب، والتجارة، والحقوق، والذين يقدر عددهم بمئات الآلاف فى جامعات مصر المختلفة، والذين درجت الدولة على إلحاقهم بهذه الكليات بالآلاف كنوع من الرشوة الاجتماعية لأسرهم، التى تكبدت عناء تربيتهم والإنفاق عليهم، دون الانتباه لأنهم متوسطو الموهبة، ولم تشأ دولة يوليو فى عهودها المختلفة أن تكسر بخاطر الطبقات الوسطى المصرية، التى ظل حلمها الأول أن ترى أبناءها «أفندية» يشار لهم بالبنان، ويلحقون بقطار الميرى، ويتمرغون فى ترابه، وفق صيغة قديمة ورثتها مصر من أيام الاحتلال البريطانى، وحافظت عليها رغم أن الزمن يتغير بقوة، ولا يعنى هذا أننى لا أقدر كليات الآداب، والتجارة، والحقوق، ولكننى أقول إننا لا نحتاج فى كل عام سوى لخمسة فلاسفة جدد «وسيكون فيلسوف واحد شيئًا عظيمًا» ونفس الأمر ينطبق على الأقسام الرفيعة مثل اللغات، وعلم النفس، والتاريخ.. هذه أقسام يجب أن تخرج لنا أفرادًا متميزين يعدون على أصابع اليد الواحدة كل عام وليس الآلاف الذين لا يجدون فرصة عمل فيلتحقون بمهن يدوية يجدون أنفسهم غير مؤهلين لها ولم يتلقوا التدريب اللازم عليها، لتكتمل المأساة من جميع جوانبها، نفس الأمر ينطبق على كليات الحقوق التى كانت تخرج الحكام والسياسيين فى زمن ما قبل يوليو، فصارت تخرج الآلاف سنويًا لا يجدون فرصًا لائقة ولا مناسبة فى مهنة لا ينجح فيها سوى الموهوبين فى الدرس والخطابة والثقافة العامة والقانونية معًا، وأستطيع أن أطالب بقليل من التجاوز بإغلاق كليات الآداب، والتجارة، والحقوق، وغيرها أمام غير المتميزين فى العلوم الإنسانية، وتخفيض أعداد المقبولين فيها إلى نسبة خمسة فى المائة من إجمالى من يتم قبولهم حاليًا، مع التوسع فى تأسيس المعاهد الفنية الصناعية الملحقة بمصانع القطاع العام أولًا والقطاع الخاص ثانيًا، على أن يوجه لها الحاصلون على مجاميع متوسطة تقودهم للكليات النظرية، وعلى من لا يرغب منهم فى التعليم الفنى أن يكتفى بشهادة الثانوية العامة، بدلًا من تضييع الوقت فى دراسة لا طائل من ورائها.. لقد روى لى صديق يعمل مسئولًا فى إحدى شركات الكهرباء أنه تم فتح الباب لطلب محصلى كهرباء وهى مهنة شريفة ومحترمة بكل تأكيد، وأنه لفت نظره أن أحد المتقدمين حاصل على بكالوريوس من كلية السياسة والاقتصاد وأنه لم يقبله لأن أوراقه غير كاملة، والحقيقة أننى وجدت نفسى منفعلًا، ثم هدأت ثورتى، وقلت له للأسف هذا الشاب غير موهوب، ولو كان مثقفًا لوجد لنفسه فرصة كباحث أو ككاتب أو كاقتصادى، وأعقبت هذا بأنى قلت له إننى على استعداد لمساعدته للعمل فى الصحافة والإعلام لو كان يصلح، وطلبت منه أن يصلنى به لو تردد عليه مرة أخرى، والحقيقة أن هذا الشاب ضحية التوجيه الخاطئ، حيث أقدم على الدراسة فى مجال يتطلب استعدادًا خاصًا لا يملكه، فكانت النتيجة أن أهدر من عمره أربع سنوات، وضيع فرصة أخرى على شاب موهوب لم يحصل على مجموع كبير رغم أنه قد يكون مثقفًا جدًا، والمأساة الأكبر أنه خرج إلى سوق العمل وهو لا يحمل أى مهارة لا فنية ولا نظرية.. وهذا كله من ضروب «العك» الخالص الذى ورثناه من الماضى وأظن أننا فى أمس الحاجة للتخلص منه كى نبدأ مرة أخرى «على نظافة».