الأخلاق المصرية
فى بداية القرن التاسع عشر صدر كتاب مهم هو «الأخلاق البروتستانتية»، كاتب الكتاب هو عالم اجتماع مهم جدًا اسمه «ماكس فيبر»، فكرة الكتاب تقوم على رصد أثر حركة الإصلاح الدينى المسيحى فى النمو الاقتصادى للغرب.. وجد «فيبر» أن الحركة الإصلاحية التى عُرف أتباعها بـ«المحتجون» أدت إلى فهم جديد للعمل، وللغاية من وجود الإنسان على الأرض، هذا الفهم أدى إلى حالة من التفانى فى العمل، وتحرى الدقة فيه، والإبداع فى فكرة إعمار الأرض، وأدت هذه المفاهيم من بين ما أدت إلى النمو الرأسمالى الكبير فى الغرب والخروج من عصر الإقطاع إلى عصر الثورة الصناعية، ثم الثورة الإلكترونية، ثم الثورة التكنولوجية حتى وصلنا إلى ثورة «الذكاء الاصطناعى».. كانت الفكرة الأساسية للإصلاح فى الغرب هى إقناع الناس بأن العمل هو أفضل طريقة للتكفير عن خطيئة الإنسان الأولى حين عصى ربه وأكل من شجرة الخلد فنزل من الجنة إلى الأرض باحثًا عن معنى لوجوده فيها.. هذه الفكرة البسيطة هى التى دفعت المستوطنين الأوائل فى أمريكا للعمل ساعات طويلة ومستمرة جعلت أمريكا على ما هى عليه اليوم.. فى بلادنا الإسلامية نحتاج إلى ثورة إصلاح دينى شبيهة تجعلنا أقرب إلى العمل والإنجاز والتقدم.. فى بداية القرن ظهرت مجموعة من الدعاة يقلدون حركة الإصلاح الدينى فى أوروبا من حيث الشكل.. حيث يرتدى رجال الدين زيًا شبيهًا بالزى الذى يرتديه الناس.. ويتحدثون لغة شبيهة بلغة الحياة اليومية.. عرف هؤلاء إعلاميًا باسم «الدعاة الجدد» لكن اتضح مع الأيام أنهم مجرد دجالين يهدفون إلى جمع أكبر قدر ممكن من الثروة دون أى اهتمام بإصلاح دينى حقيقى.. لو نظرنا للتفسيرات السائدة حاليًا للدين لدى معظم المسلمين سنجد أنه يتم ترويج كل ما يعوق تقدم هذا الوطن، وكأن الأمر مقصود، وأن جماعة الإخوان وحلفاءها هم من تبنى نشر هذه التفسيرات وإقناع الناس بها طوال الأربعين عامًا الماضية.. فعلى مستوى الغاية من وجود الإنسان على الأرض تم إقناع الناس بأن الهدف هو التفرغ لطقوس العبادة.. رغم أن سيدنا عمر صادف أخين أحدهما يجلس فى المسجد والثانى يعمل وينفق عليه فأشار إلى من يعمل قائلًا «أخوه أعبد منه».. وبشكل عام شاع فكر التواكل وعدم الأخذ بالأسباب، والاعتقاد بفكرة الجبر والقدر، وأن كل إنسان يحصل على نصيب من الرزق دون أن يسعى، وأن الإنسان مسير لا مخير وبالتالى لن يستطيع تغيير مصيره، سواءً عمل أو لم يعمل، وهى كلها أفكار مخلوطة، فيها حق اختلط بباطل، أو حق أريد به باطل، لكن تم تعميم التفسيرات التى تدعم التواكل، والرضا بالمقسوم، والاعتقاد بأن كل شىء مقدر سلفًا، بدلًا من تشجيع الناس على العمل لتغيير واقعهم، وساعد على هذا أن خطباء المساجد أقنعوا الناس بأن الرزق الوفير مرتبط بالتقوى وتطبيق الحدود الإسلامية، وبأن البترول لم يظهر فى الجزيرة العربية إلا لأنها أرض الإسلام!! وبأن هذه مكافأة إلهية لأهلها على تطبيقهم الشريعة.. رغم أن البترول موجود فى أمريكا وروسيا وفنزويلا ودول كثيرة ليس لها أى علاقة بالشريعة.. وهكذا كان هذا الخطاب الموحد والمتكرر يقنع الناس بأن التقدم والثراء ليس لهما علاقة بالعمل.. وقد سمعت بأذنى خطيب المسجد الذى كنت أصلى فيه فى الثمانينيات يقنع الناس بأنه بمجرد أن نطبق الشريعة فى مصر فستتفجر آبار البترول تحت أقدامنا!! ولم يكن هذا بعيدًا عن أقوال بعض الدعاة بأن الله سخر لنا الغرب لخدمتنا من خلال اختراعات علمائه، لأننا أفضل منهم، وأنه ليس علينا سوى استخدام هذه الاختراعات.. ولم يكن هذا بعيدًا أيضًا عن الترويج لأفكار مثل الإعجاز العلمى فى القرآن والسنة، التى أقنعت الناس بأننا لسنا فى حاجة لدراسة العلم ولا لتعلمه.. لأن كل قوانين العالم موجودة فى القرآن الكريم.. وكانت هذه أكبر عملية إساءة للقرآن الكريم وللعلم معًا.. أما على المستوى المباشر فقد ظل الإخوان وحلفاؤهم يقنعون الناس لمدة نصف القرن بأن تنظيم النسل حرام، وبأنه مخالف للدين، وبأن الرسول سيباهى الأمم يوم القيامة بالعدد الذى وصل له المسلمون «حتى لو كانوا حفاة عراة»!!؟ وهكذا حتى زاد تعداد المصريين من ٢٢ مليونًا فى بداية السبعينيات إلى مئة مليون حاليًا بنسبة زيادة ٢٪ سنويًا، وهى واحدة من أعلى نسب زيادة السكان فى العالم.. وكانت الكارثة التى نواجهها أن كل الأفكار الإجرامية كان يتم ترويجها بعد أن تتم تغطيتها بغطاء دينى.. فالضرائب حرام شرعًا وليس على المسلم سوى أن يؤدى فريضة الزكاة، حتى إن ممثلًا كوميديًا ينتمى للإخوان توقف عن تمثيل إعلان يشجع على دفع الضرائب اقتناعًا منه بحرمة ما يفعله، أما البحث عن الآثار وتهريبها للخارج فهو حلال شرعًا، كما قالت فتوى لداعية سلفى مشهور، وكما تقول وقائع قضية تهريب آثار شهيرة كان المتهم الأول فيها عضوًا فى اللجنة الدينية بمجلس الشعب فى سابق الأزمان، ولم تكن هذه الفتاوى بعيدة عن ممارسات أخرى تقول إن المخدرات ليست محرمة مثل الخمور وإنه لم يرد فيها نص واضح بالتحريم، ولا شك أن هذا كان سببًا ولو غير مباشر فى انتشار هذه العادة الذميمة بين قطاعات واسعة من المصريين وهى عادة لا يستقيم معها أى تقدم أو نهضة.. وبشكل عام فإن جزءًا من معضلة التنمية لدينا أن الذين نشروا التعليم الدينى عبر آلاف المعاهد والجمعيات والمساجد ومراكز إعداد الدعاة جعلوه يميل للحفظ والتلقين والتلقى، وهى صفات تتعارض مع روح البحث العلمى التى تطرح الأسئلة، وترفض المسلمات، وتختبر الحقائق، وتسعى لاكتشاف الجديد.. وكانت المعضلة أن التقدم الصناعى لا ينفصل عن البحث العلمى وأن البضائع التى لا نتوقف عن استيرادها من الغرب هى بنت البحث العلمى المستمر على مدار الساعة.. وهكذا كان الشعب غاضبًا دائمًا من الحكومات التى فشلت فى التنمية، فى حين أن الثقافة السائدة التى نشرها الإسلاميون تعادى التنمية بكل ما تملك من قوة، وللأسف فإن آثار هذه الثقافة ما زالت موجودة ومتحكمة فى أذهان الكثيرين، وهو ما يضعنا فى مشكلة كبيرة أقرب لمشكلة «البيضة والكتكوت».. فهل علينا أن نتخلص من ثقافة التخلف حتى تستطيع الدولة قيادة عملية التقدم؟ أم علينا أن نتقدم أولًا ثم نتخلص من ثقافة التخلف بعد أن نتقدم؟؟.. معضلة.