طه الذى رأى
تحل هذه الأيام الذكرى السابعة والأربعون لرحيل عميد الأدب العربى طه حسين، الكفيف الذى رأى كل شىء، وفاقد البصر الذى امتلك البصيرة، ابن الصعيد الذى امتلك عقلًا لامعًا وقلبًا شجاعًا، الفقير الذى حصل على الباشوية ومنح ملايين الفقراء حقهم فى التعليم، وأفهمهم أن التعليم كالماء والهواء.. إن أكبر ظلم يتعرض له طه حسين هو أن نختزله فى قصة بطولة شخصية تحدى فيها صاحبها فقره ومرضه وحرمانه من نعمة البصر ليصبح مديرًا للجامعة ووزيرًا للمعارف، ومثقفًا من أكبر مثقفى العالم، ورمزًا يُشار إليه بالبنان.. هذه قصة عظيمة، يمكن تدريسها فى مناهج التنمية البشرية، لكنها جزء على مئة من قصة طه حسين، ومن عظمة طه حسين، نفس الأمر ينطبق على تعريف هذا العقل العظيم على أنه مؤلف «دعاء الكروان»، و«الحب الضائع» وغيرهما من الروايات، إذ إن ذلك جزء يسير من طه حسين، ولكنه ليس طه حسين، إن عظمة طه حسين الحقيقية هى فى امتلاكه القدرة على التمرد، وإعلان الرأى بشجاعة بالغة، ودفع ثمن هذا الرأى كاملًا.. هو ابن الثقافة المصرية التقليدية، فوالده شيخ معمم يعمل موظفًا فى صعيد مصر، وأخوه الأكبر طالب فى الأزهر، وثقافة الأسرة دينية تقليدية، ومنتهى حلمها أن يحصل ابناها، الأكبر «أحمد» والأصغر «طه»، على شهادة العالمية، لكن صاحب العقل المتمرد تستوقفه طرق التدريس التقليدية، والمناهج العقيمة، والعجز عن الإبداع، وقهر الرغبة فى التفكير لدى الطلبة، وقد كانت هذه عيوبًا موجودة فى المؤسسة الدينية العريقة، ولعل بعضًا منها لم يزل موجودًا حتى الآن، ولعل هذا هو المقصود بإصلاح المناهج الأزهرية، أو إصلاح الخطاب الدينى، لقد روى طه حسين فى كتابه «الأيام» الكثير عن معاناته داخل هذه المؤسسة العريقة، ومنها ما تعرض له حين جادل أستاذه الأزهرى فى رأى علمى، فغضب الشيخ وقال للفتى- طه حسين- اسكت يا أعمى! ما أنت وذاك، ويروى طه حسين أنه لم يسكت ولم يخف وقال لشيخه فى حدة «إن طول اللسان لم يثبت حقًا قط، ولم يمح باطلًا»! وهو رد عاصف وأكثر من شجاع إذا راعينا ظروف الفترة التاريخية، والطريقة التى كان الأساتذة يعاملون بها طلابهم، ورغم أن الحصول على شهادة «العالمية» كان يقتضى الدراسة لمدة ثمانى سنوات، إلا أن طه حسين لم يحتمل سوى أربع سنوات، وصف بعدها دروس الأزهر بأنها «كلام معاد، وأحاديث لا تمس القلب، ولا تضيف جديدًا»، وكان افتتاح الجامعة الأهلية «القاهرة فيما بعد» طوق نجاة ألقى لهذا العقل اللامع، فالتحق بها بعد أن اقترض مصاريف الدراسة بها وكانت جنيهًا واحدًا، لم يكن طه حسين يملكه ولا يملك نصفه، وقد حصل على رسالة الدكتوراه من الجامعة عن «أبى العلاء المعرى» الشاعر العظيم، الذى كان متهمًا بالزندقة، والخروج على الدين، وهو ما أدى لرفض الأزهر منحه درجة العالمية، وتركه للدراسة فى الأزهر، ليذهب مبعوثًا فى جامعة مونبلييه، ليعود بعد عام بسبب الحرب العالمية الأولى، ويتفرغ لكتابة مقالات صحفية ينتقد فيها الأوضاع فى الأزهر، الذى ظل يحافظ على جموده أكثر من أى شىء آخر، وهو ما أدى لتهديده بإلغاء بعثته، لولا أن المستنيرين وقتها كانوا أكثر من ذوى العقول الجامدة، فوجد من يدافع عنه، وعن حقه فى الاختلاف.
ولم تكن الضجة التى أثارها كتابه «فى الشعر الجاهلى» وليدة رغبة فى أى شىء، سوى إعمال العقل، حيث حلل طه حسين القصائد التى وصلت لنا من الشعر الجاهلى، وقال إنها لا تحمل ملامح الحياة فى ذلك العصر، ولا الآراء الدينية للجاهليين، وإن أغلب الظن أنها كتبت بعد انتشار الإسلام، وقد كان طه حسين يطبق منهجًا علميًا فى الشك، والتقصى التاريخى، ولا يتعارض هذا أبدًا مع الإيمان، الذى هو أمر قلبى بحت، حيث نؤمن بقلوبنا لا بعقولنا، لكن الأزهريين الذين طالما آلمهم تمرد طه حسين، واعتزازه بعقله، تظاهروا ضده، وقدموا ضده بلاغًا للنيابة العمومية، حيث حقق معه قاض مستنير هو محمد بك نور، الذى استمع له، وانتهى إلى أن ما ذهب إليه طه حسين هو اجتهاد علمى، لا رغبة فيه للإساءة للأديان، وقد اتسمت تلك الفترة بظهور كتابات أثارت ذوى الاتجاه المحافظ، منها كتاب «الإسلام وأصول الحكم» ورسالة دكتوراه عن المرأة فى الإسلام للدكتور منصور فهمى، وقد تراجع الجميع بشكل أو بآخر، لكن طه حسين كان فى منطقة أخرى، من حيث أصالة ثقافته، وعمق موهبته، وشجاعته، ونزاهته الفكرية، وعلى عكس ما يتصور الكثيرون، فقد شهدت مصر بعد تأسيس الإخوان المسلمين موجة من المد الدينى، دفعت كبار المثقفين الليبراليين لتقديم قراءات مختلفة للتراث الإسلامى، ولسير الرسول «ص» وصحابته، إلا أن طه حسين فيما قدم، ظل وفيًا لمنهجه ولأفكاره، فقدم «على هامش السيرة» الذى روى فيه قصص المستضعفين، والبسطاء من المسلمين الأوائل، وفاء لأفكاره، وانحيازاته الفكرية، وقدم مجموعة «الفتنة الكبرى» التى عالج فيها المسكوت عنه فى التاريخ الإسلامى، «ما زال الأزهر حتى الآن يُحرِّم تقديم أعمال درامية عن الفتنة الكبرى»، ورغم أن طه حسين يدين للأحرار الدستوريين الذين كانوا نخبة مصر الفكرية والاقتصادية أيضًا بتبنيهم له، ودفاعهم عنه، إلا أنه مع الوقت وجد أن موقعه الحقيقى هو فى حزب الوفد، الذى كان حزب الجماهير، أو حزب الجلابيب الزرقاء كما كان يصفه سعد زغلول، فقبل منصب وزير المعارف عام ١٩٥١، وله دون غيره يدين المصريون بمجانية التعليم ما قبل الجامعى، وبالتوسع فى الجامعات المصرية، حيث بنى جامعات الإسكندرية، وأسيوط، وعين شمس، وهو راسم الطريق الذى سارت فيه ثورة يوليو بعد ذلك، وهو صاحب دستور التعليم والثقافة فى مصر فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، ولو سرنا على تعاليمه لكنا فى مكان آخر، لكنه أوصانا بأن نتوجه صوب البحر الأبيض فتوجهنا صوب البحر الأحمر.. ولعل هذا كان بعضًا مما قضت علينا به الأيام.. ولعل أكبر خطايا ثورة يوليو، أنها بعد وقت قليل من قيامها أسندت المنصب الذى كان يشغله طه حسين، لكمال الدين حسين، أكثر قادتها تأثرًا بأفكار الإخوان المسلمين، حتى إنه خرج من جميع مناصبه عقب القبض على سيد قطب، ولعل هذا قرار خاطئ، ضمن حزمة قرارات خاطئة، ما زلنا ندفع ثمنها حتى الآن.. فتحية لصاحب البصر والبصيرة طه الذى وفى