منير
كثيرًا ما أسأل نفسى ماذا لو قرر «محمد منير» أن يشبه الآخرين؟، ماذا لو أنه ذهب للحلاق كى يفرد شعره بمكواة الشعر مثلًا، يقصه قصيرًا، أو يطيله مثل عبدالحليم حافظ.. ماذا لو خرج لنا يرتدى بدلة لامعة، ويغنى للهجر واللوعة والفراق، كما يفعل أسلافه منذ قرون.. كم كنا سنخسر لو أن منير لم يكن هو منير.. كم كنا سنخسر لو لم يتمرد.. يجمع منير عندى بين صفتين تبدوان متناقضتين إلا عند الصادقين، هو «متمرد» وأيضًا «منتمٍ».. متمرد على الأشكال القديمة لحب مصر، لكنه منتمٍ لمصر.. متمرد على التقليدية ربما.. على الادعاء.. ربما.. لكنه منتمٍ حتى الثمالة.. الإيقاعات التى يغنى عليها هى أقرب شىء لغناء المصرى القديم.. ربما غنى عليها المصريون وهم يبنون الهرم.. أو وهم فى طريقهم لطرد الهكسوس.. أتخيلهم يغنون «رزقنا.. الرزق على الله..».. هو لا يستعير ألحانه.. ولا يسرقها من الأتراك.. ولا من الغرب.. ولا حتى من متحف الموسيقى الشرقية.. يبحث عنها بين الناس.. فى حنايا التفاف النيل فى النوبة.. يحفر الأرض ليجدها مدفونة منذ آلاف السنوات.. صعب جدًا أن تسمع أن ثريًا من هذه الدولة أو تلك اشترى محبة محمد منير أو ولاءه.. هو غير مبال، وهو مصرى جدًا حتى لو لم يتشدق بشىء.. بالأمس احتفل منير بعيد ميلاده السابع والستين وبرحلة غناء تقارب ٤٤ عامًا.. الكتابة عنه ليست كتابة فى الفن، فهو تخطى هذا بكثير، هو صاحب طريقة فى حب الوطن، حتى لو قالوا إنه ظاهرة صنعها غيره، لا أحد يصنع فنانًا سوى إحساسه ووعيه، يغنى للأرض وكأنه يغنى للحبيبة.. ويغنى للحبيبة وكأنه يغنى للأرض.. ويغنى للإنسان لأن الوطن ليس معنى معلقًا فى الفراغ.. الوطن أرض وناس، وهو يغنى للأرض والناس.. هو ابن الصدفة، والدليل الحى على أن الموهبة مثل الجريمة لا يمكن إخفاؤها.. ذهب يغنى خلف شقيقه الأكبر أمام بليغ حمدى، التقطته أذن بليغ وعلق «الصغير صوته أحسن».. لا شك أن جموحه اصطدم بجموح بليغ حمدى فلم يتعاونا.. لكنه أعطاه الشهادة.. كان ما يغنيه مختلفًا عما يمكن أن تذيعه الإذاعة.. تأثر بالمحامى النوبى زكى مراد.. يخجل الكثيرون من القول إن مراد كان يساريًا كبيرًا، لكن منير أخذ من اليسار أفضل ما فيه.. حب الوطن، النظرة المختلفة للفن، وترك أمراضه خارج روحه.. الادعاء، المزايدة، التعالى على الواقع.. مع عبدالرحيم منصور، وأحمد منيب اكتملت دائرة المعلمين.. غنى فى مقاهى وسط البلد.. ثم قابل منتجًا مغامرًا، أنتج له ألبوم «بنتولد».. كان من المستحيل أن تذيع له الإذاعة أغانيه.. كان يغنى من خارج الكتالوج المعتمد.. لولا الكاسيت لظل ظاهرة محدودة غالبًا، ومحرومًا من الإذاعة.. غنى لمصر على طريقته، غنى «شبابيك» و«حدوتة مصرية» و«وسط الدايرة»، غنى كثيرًا لكنه ظل ممنوعًا من الإذاعة والتليفزيون والاحتفالات الرسمية، فى عام ٢٠٠٠ سأله مذيع لبنانى «لماذا أنت محروم من الإعلام المصرى؟»، فقال له «وأنت مالك»، بعدها ظهر فى أول احتفال رسمى، وكانت المفارقة أن أكثر أبناء جيله مشاركة فى الاحتفالات الرسمية فى التسعينيات لم يكمل رحلته فى الغناء، واكتفى بإدارة مصنع يملكه.. فرض منير نفسه من خلال محبة للغناء وذوبان فيه، هو غالبًا لم يحب أى شىء بقدر ما أحب الغناء، ولا حياة له خارج فنه، ولكنه منحنا فنًا عظيمًا، أصبح من معالم حياتنا، بعض ضيقى الأفق زايدوا عليه، كما زايدوا من قبل على الأبنودى، وصلاح جاهين ومحفوظ.. وكأن أرواحهم الضيقة لا تتحمل كل هذا الجمال، ما أنا متأكد منه أن الفن فى مصر كان سيخسر الكثير جدًا لو لم يظهر محمد منير، وأن مصر التى يغنى لها منير هى مصر من لحم ودم وأرض وبشر، وحكايات، وهى بكل تأكيد أقرب من مصر المجردة التى يغنى لها الآخرون، وما أنا متأكد منه أن حياة الملايين من مختلف الأجيال كانت أجمل وهم يسمعون محمد منير.. كل سنة وأنت محمد منير يا منير.