السادات.. الرئيس الذى استشهد مرتين
كل الاتهامات التى وجهت له ثبت عدم صحتها
عبدالناصر اختاره نائبًا لأنه أدرك أن مصلحة مصر تقتضى التوجه نحو اليمين بعد النكسة
اتباعه لسياسة الصدمات جعل الكثيرين لا يفهمونه ويشعرون بالعداء تجاه تصرفاته
التحول الذى أجراه فى نهاية السبعينيات حمى مصر من التخريب الذى لحق بدول عربية أخرى
أدرك أن المعسكر الشرقى سينهار وأن دول الرفض العربى ستتبعه فى الانهيار
مع كل ذكرى للسادس من أكتوبر، ذكرى للرئيس السادات، فذلك التاريخ هو يوم ميلاده كزعيم، ويوم مقتله كجسد، بالأمس كانت الذكرى الثامنة والأربعون لنصره، والذكرى الأربعون لرحيله، قتل وهو يحتفل بنصر أكتوبر على يد متطرفين يدعون الإسلام، وكأن القدر يجمع بين أعظم إنجازاته «نصر أكتوبر» وأعظم أخطائه «التحالف مع الإخوان».. هو بكل تأكيد بطل، ولكنه بطل «تراجيدى» وهو ذلك البطل الذى يرتكب خطأ لا يمكن الرجوع عنه، ولا تدارك آثاره، ويبقى عليه أن ينتظر، وأن يدفع ثمن الخطأ فى النهاية، وقد كان التحالف مع الإخوان هو الخطأ الذى وقع فيه، ودفع ثمنه، ولا ينفى هذا أنه واحد من أكثر من ظلموا فى تاريخ مصر، وقد لعبت طبيعته الشخصية دورًا فى هذا.. فهو كان يعمل بطريقة «الصدمة».. بالإضافة إلى أنه كان صاحب رؤية سباقة.. يصعب على الآخرين إدراك أنها ستتحول لواقع بعد سنوات، وقد أدت كلتا الصفتين إلى شك الناس فيما يفعل، وساعد على ذلك دخوله فى خصومة واضحة مع اليسار المصرى، ومنه كتاب ومبدعون لهم وزن وتأثير.. خاصة فى أوساط الصحافة والإعلام ثم خصومته مع الإخوان وقد ترك لهم المنابر والشارع إلا قليلًا، وقد كان ينفرد بنفسه طويلًا، ويفكر كثيرًا، ثم يخرج ليعلن صدمته للناس.. وقد كان يعمل بطريقة صدمة كبيرة على رأس كل عام، ففى ١٩٧١ أدخل كل نصف مجلس الوزراء وكل رؤساء التنظيمات السياسية إلى السجن وأعلن «ثورة التصحيح» وفى ١٩٧٢ طرد الخبراء الروس، وفى ١٩٧٣ كان العبور، وفى ١٩٧٤ كان يدخر صدمة «الانفتاح الاقتصادى» وفى ١٩٧٥ أعاد فتح قناة السويس للملاحة، وفى ١٩٧٧ زار القدس وكانت تلك الصدمة الأكثر مفاجأة، وفى ١٩٧٨وقع اتفاقية كامب ديفيد، وفى ١٩٧٩صمم على استضافة الشاه فى مصر وفاءً لمساندته للبلد فى حرب أكتوبر.. والحقيقة أنه وقع فى عدة أخطاء، لكن هذا لا ينفى أنه تعرض لاتهامات ظالمة، وساهمت خصومته مع الأستاذ هيكل فى تشويه صورته، حيث هيكل هو شيخ الصحفيين وأستاذهم، والتلاميذ يميلون لقبول ما يقوله الأستاذ وكأنه حقيقة مسلم بها، رغم أنه قد لا يكون كذلك، والحقيقة أن كتابه عن الرئيس السادات «خريف الغضب» هو واحد من أسوأ كتبه، وأقلها توثيقًا، وأكثرها انحيازًا، ولا يقترب منه فى المستوى سوى كتابه عن الرئيس مبارك، الذى حمل نفس العيوب تقريبًا، وعلى ما يبدو فقد أدرك هيكل ذلك، فلم يطبع الكتابين طبعات جديدة فى سنواته الأخيرة، ولم تحتوها مجموعة أعماله الكاملة الصادرة عن دار الشروق.. وكان أكبر الأكاذيب التى تعرض لها أنه جاء رئيسًا بالصدفة، وأن الرئيس عبدالناصر عيّنه نائبًا كنوع من التكريم له.. وفى ظنى أن الرئيس عبدالناصر اختاره اختيارًا واعيًا، حيث كان معروفًا عنه أنه «محافظ» سياسيًا.. أو أنه كان يمثل تيار «اليمين» فى ثورة يوليو، أو فى دولة عبدالناصر، والحقيقة أن المنطقة العربية كلها اتجهت يمينًا بعد نكسة يونيو ١٩٦٧، وكان ذلك أثرًا طبيعيًا للنكسة، فالجناح المحافظ فى البعث العراقى استولى على السلطة ليحسم الصراع مع الحزب الشيوعى العراقى، والرئيس حافظ الأسد قام بالحركة التصحيحية ١٩٧٠ ضد جناح متطرف فى البعث العراقى، وهكذا لم يكن صعود الرئيس السادات استثناءً ولا وليد مؤامرة بقدر ما كان نتيجة طبيعية لنكسة يونيو والتغيرات التى تلتها، وكان من ضمن الشائعات التى طاردته قبل أكتوبر أنه لا يريد الحرب، ولم يكن ذلك صحيحًا، وقد كشفت محاضر اجتماعاته مع القادة العسكريين أنه كان يواصل الاستعداد للمعركة، ويحثهم على الانتهاء من التجهيزات، وأنه اختلف مع الفريق محمد صادق لأنه أخبره أنه يحتاج مزيدًا من الوقت للاستعداد، فأقاله، وعيّن المشير أحمد إسماعيل قائدًا عامًا، وخاض الجيش المصرى المعركة على أروع ما يكون.. وليس صحيحًا ما قيل من أن السياسة خذلت السلاح فى ٦ أكتوبر، فالحقيقة أن معلومات كثيرة كانت غائبة ومحجوبة.. بالإضافة إلى أنه كانت ثمّة صياغات عاطفية مطاطة، وحرج من الحديث عن تطورات المعركة، لقد أحدثت حرب أكتوبر أثرًا سياسيًا عظيمًا، وحققت كل أهداف التوجيه الاستراتيجى الذى أصدره السادات للجيش المصرى.. حيث حركت الوضع السياسى، وأعادت قناة السويس، وتواجدت القوات المصرية على الضفة الشرقية للقناة.. ووصلت القوات المصرية إلى أقصى مدى يمكن الوصول إليه فى مواجهة الدعم الأمريكى الكبير لإسرائيل، واجترح المقاتلون المصريون بطولات فردية كبيرة فى التصدى لسيول الدبابات الإسرائيلية التى كانت تهدف لاستعادة ما فقدته إسرائيل مرة أخرى.. والحقيقة أيضًا أن التفاوض لاستعادة الأرض لم يكن اختراع الرئيس السادات، فقد قبلت مصر مبادرة روجرز فى عهد الرئيس ناصر، ولكن ربما كان شكل التفاوض سيختلف لو استمر ناصر على قيد الحياة، وكذلك شكل العلاقة مع إسرائيل.. لقد أنجز السادات المعركة على أفضل ما يكون بهدف تحريك الوضع السياسى.. ودخل فى مرحلة البحث عن ثمار المعركة، والحقيقة أن إبرام السلام مع إسرائيل كان إنجازه الأكبر، وخطيئته الكبرى أيضًا، لقد كان صاحب رؤية مستقبلية، خلطها بتراثه كمصرى عاش فى الثلاثينيات والأربعينيات قبل ظهور إسرائيل، وحين كان التنوع والتعايش ممكنًا فى المجتمع المصرى وفى المنطقة، لقد أدرك السادات مبكرًا أن المعسكر الشرقى سينهار، وقد حدث ذلك بعد تسع سنوات من رحيله، وأدرك أن من تبعات ذلك انهيار النظم التى سميت بنظم الرفض العربى.. مثل العراق، وسوريا، وليبيا وقد حدث ذلك بعد ثلاثين عامًا من اغتياله، وأدرك أن الغرب لن يسمح بإزالة إسرائيل من الوجود ولا بهزيمتها، وأن صراعنا معها لا يمكن أن يكون صراع وجود لا صراع حدود كما قال الرئيس عبدالناصر فى الستينيات، وكان فى كل ذلك سابقًا زمنه، لكنّ خطأه الحقيقى أنه عقد الاتفاق بطريقة الصدمة، ولم يبذل جهدًا كافيًا لتهيئة الأجواء لا فى الوطن العربى، ولا فى داخل مصر.. وكان ما ساعد على الشعور بالصدمة أنه أطلق العنان للإخوان المسلمين منذ بداية حكمه، فسيطروا على الشارع، وكان مما غذوه فى العقول فكرة عداء إسرائيل على أساس دينى، والعداء مع اليهود لمجرد كونهم يهودًا، وهو ما أضفى مزيدًا من الصدمة على من وقعوا تحت تأثيرهم ومنهم المجموعة التى خططت لاغتياله، وهكذا فقد جمع الرجل بين إطلاق تيار دينى ينشر الكراهية والعنف، وبين السعى للسلام مع عدو تاريخى، وقد حدث هذا وذاك خلال سنوات قليلة للغاية، وكان ما ضاعف الأزمة، أن الإخوان فى ذلك الوقت كانت تربطهم علاقة ذيلية بدول الخليج العربى التى مولتهم وتوسطت فى صفقة إعادتهم للحياة السياسية، وكانت هذه الدول أيضًا تشعر بالصدمة، وعدم الفهم، وشاركت فى مقاطعة مصر عربيًا، وقد انعكس هذا على موقف الجماعة التابعة لها فى مصر، والتى اشتطت فى العداء للرجل، والفجر فى خصومته، وقيادة التحالف ضده، وهو ما ولّد لديه إحساسًا بالغضب، ونكران الجميل، وعدم تقدير ما قام به من خطوات تاريخية من أجل البلاد.. وساعد على ذلك رغبته فى رؤية نتائج سريعة لخطواته.. وتعنت الإسرائيليين تجاهه، وعدم منحه مكاسب واضحة يمكن أن يعلنها للرأى العام، وقد ضاعف ذلك من إحساسه بالضغط من جميع الجهات.. وزاد الطين بلة أنه كان يراهن على نجاح الرئيس الأمريكى جيمى كارتر فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، لكن كارتر دفع ثمن أزمة الرهائن فى طهران وتصاعد التطرف فى المنطقة، وفاز فى الانتخابات الرئيس رونالد ريجان الذى بدا غير مبالٍ بالسادات، وغير مقدر للخطوات التى قام بها، حتى إن السادات قال لمن حوله بعد مقابلته لريجان، إن الرجل «مبلم» والمعنى أنه كان غير متفاعل معه فى اللقاء، أو لم يظهر الإحساس الكافى. وضاعف ذلك من إحساس الرئيس السادات بالخذلان.. ثم كان ستار النهاية على يد أربعة متطرفين قالوا جميعًا فى التحقيقات إن السبب الرئيسى لإقدامهم على الاغتيال هو اعتقاله لعمر التلمسانى مرشد عام الإخوان الذى كانوا يصفونه فى التحقيقات بـ«الداعية». رحم الله الرئيس السادات الذى شهد نوعًا من محاولات الإنصاف بعد وفاته بكثير، وأذكر أن الأستاذ هيكل قال عام ٢٠٠٦ تقريبًا إنه يشعر بالامتنان للرئيس السادات لأنه أنهى احتلال أرض مصرية كانت مرتهنة بقوة السلاح، ثم جاء الإنصاف الأكبر على يد القوات المسلحة المصرية والرئيس السيسى، ضمن توجه عام لإنصاف الذين ظلموا فى السياسة والعسكرية المصرية نتيجة عوامل أصبحت فى حكم التاريخ جميعها.. وهو اتجاه حميد، يعيد قيم الوفاء والإنصاف وهى قيم يحتاج المصريون إلى التوحد حولها، وفى رأيى أن الخلاف القديم بين المصريين حول السادات وعبدالناصر أصبح فى حكم التاريخ، وأن التقسيم الجديد يجب أن يكون بين مصريين يؤمنون بالدولة الوطنية ومشروع النهضة وبين من لا يؤمنون بالدولة الوطنية، وأن معسكر الدولة الوطنية يجب أن يتحول إلى جبهة بين مؤيدى الستينيات ومؤيدى السبعينيات، وأنا شخصيًا أحب عبدالناصر ولكنى لا أكره السادات ولا أراه مفرطًا، ولا أصدق الاتهامات التى كيلت له، وأعتقد أنه لولا التحول الاستراتيجى الذى قام فى نهاية السبعينيات لاستهدف الغرب الجيش المصرى كما تستهدف جيوش الدول العربية الأخرى والفارق هنا فى درجة الاستهداف وقوته ومدى الشر الذى كان يمكن توجيهه لنا.. رحم الله الرئيس السادات، ظلمه الآخرون، وظلم نفسه بتحالفه مع الإخوان، واعتقاده أنه يمكن أن يأمن لهم.