رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسائل ٦ أكتوبر

أى حدث يكتسب قيمته من المعانى التى يمثلها، أى صفحة فى كتاب التاريخ هى درس نتعلم منه، وبدون هذا فالتاريخ مجرد حبر على ورق، قيمة حرب أكتوبر الحقيقية هى فى دروسها، وهى دروس نحتاجها بشدة بعد كل ما مرت به مصر خلال نصف قرن إلا عامين منذ أكتوبر حتى الآن.. أكتوبر هى آخر نقطة مضيئة فى تاريخنا الحديث باستثناء استفاقة ٣٠ يونيو، التى تحمل حلمًا بالنهضة يصارع ليتحقق.. أول معانى أكتوبر بالنسبة لى هو أن النصر نتيجة عقيدة المقاومة، رغم قسوة هزيمة يونيو، فإن المصريين لم ينكسروا، خرج المصريون يعلنون أنهم متمسكون بالرئيس عبدالناصر رغم أنه طرح عليهم بديلًا أقرب لفكرة التفاهم مع الغرب، وبغض النظر عن أى شىء كان هذا دليل تماسك، اندلعت معارك رأس العش بعد الهزيمة بقليل، وكان معناها رمزيًا أكثر من أى شىء آخر، وتلتها معارك أخرى فى حرب الاستنزاف، كان الدرس الثانى هو أنه لا نصر بدون عرق ومهنية، بدأ تأسيس القوات على أسس جديدة، بالغ القادة فى فرض الانضباط، تم تجنيد خريجى الكليات ليستوعبوا السلاح الحديث وقيم المعركة، أريقت ملايين الأمتار المكعبة من العرق فى التدريب، الجنود الذين عبروا القناة ظلوا ست سنوات يتدربون على عبور ترعة المحمودية وترع شبيهة بالقناة، أجروا مئات البروفات «الجنرال»، وعبروا مئات المرات، وكان هذا أهم الدروس التى تخلينا عنها فى العقود التى تلت الانتصار، تراجعت قيمة العمل، والتدريب، والجهد، لحساب الفهلوة، والكسب السريع، والتربح من بيع الهواء، كان من دروس أكتوبر أيضًا أن الكل كانوا واحدًا، كان هناك اتفاق على هدف واحد، وبدا الرئيس السادات وهو يقود المعركة طويل البال، واسع الصبر، حريصًا على وحدة المصريين، وهى صفات ربما فقد بعضها فى عام حكمه الأخير، ضم فى الحكومة التى تولت الإعداد للحرب وجوهًا بارزة من المعارضة مثل فؤاد مرسى وإسماعيل صبرى عبدالله، واستوعب حماس الطلاب المطالبين بالمعركة، وسمح لهم بمقابلة كبار المسئولين ليمتصوا حماسهم، وهو نفس ما كرره مع الكتاب والمثقفين الذين أعادهم لأعمالهم قبل المعركة بقليل، الأهم هو أن المعركة كانت معركة الكبير والصغير، وبدت مصر بمختلف ألوانها مصرة على الثأر، فالذى اقترح استخدام اللغة النوبية هو شاويش نوبى، يقابله القائد الأعلى بنفسه، ويأخذ باقتراحه ويكافئه، والذى يقترح استخدام مضخات المياه فى إزالة الساتر ضابط قبطى شاب هو باقى زكى يوسف، يستمع له الجميع ويأخذون باقتراحه، والحق أن الفوارق على أساس الدين واللغة لم تكن قد ظهرت بين المصريين، وبمعنى أدق لم تكن قد أخذت ذلك الحجم الذى أخذته فيما تلا ذلك من سنوات، وكان من حقائق المعركة التى حجبت سنوات طويلة أنها كانت معركة الجميع، بمعنى الجميع، أسهم كل القادة بمجهودهم ودمائهم فى الحرب، وأدى الجميع واجبهم نحو الوطن، وكان أسخف ما حدث فى السنوات الأخيرة قبل يناير محاولة سرقة الانتصار، أو نسبه لقائد واحد أصبح رئيسًا للجمهورية، مهما كان توفيقه فى أداء مهمته، وكان ذلك ضد كل قيم الوفاء والعسكرية، فلا ماكينة تعمل بترس واحد، ولا جسد يعمل بفضل عضو واحد من أعضائه، والاختلاف مع بعض القادة عقب المعركة لا يعنى نكران تاريخهم، لقد كان على جيلى أن يصبر سنوات طويلة حتى يرى إقرارًا بدور القادة جميعًا ويعرف أن عبدالغنى الجمسى هو الذى كتب خط سير المعركة فى كراسة لم تكن تفارق يده، وأن سعد الدين الشاذلى هو الذى وضع الخطتين اللتين نفذت قواتنا إحداهما «المآذن العالية» و«جرانيت»، وأن بعض قادة الفرق والكتائب استشهدوا فى مواقعهم، وبشكل عام، كانت البطولة جماعية، والنصر مطلبًا للجميع، وكان الوجه الثانى للعمل الجماعى الذى أخفى أيضًا بفعل السياسة هو الدور العربى فى المعركة، كان العرب صفًا واحدًا، وقدم الجميع كل ما لديهم، كانت هناك قوات عربية على جبهات القتال فى مصر وسوريا، ربما لم تؤدِ مهمات قتالية فارقة، ولكن الأهم كان فى المعنى، قدمت الجزائر وليبيا والعراق شحنات أسلحة هامة، وكان الجميع يردون جميل مصر، ويدركون أنها تقود معركة العرب، وكان هناك الموقف الشجاع للمملكة السعودية بمنع تصدير البترول، وقد بقى الدور العربى مسكوتًا عنه حتى ثورة ٣٠ يونيو، واتباع منهج إنصاف الجميع.. كانت هذه بعض دروس أكتوبر، التى يمكن اختصارها فى وحدة الصف، والعمل الجاد، والتخطيط.. وما أحوجنا لأن نتعلم دروس أكتوبر.