فى حضرة الست.. «أم كلثوم» بها تأتنس القلوب
«أُحِبُّ الوَردَ كَثيرًا، وأُحِبُّ الغِنَاءَ. صَوتُ أم كُلثومَ يَفتَحُ قَلبى، ويَترُكُ فى دَمى رَائحَةَ التَبغِ وانتظَارِ الحَبيب».
هذا ما كتبت يدى منذ ما يقرب من عشرين عامًا، كمدخل لإحدى قصائد ديوانى الثانى «بيانات هامشية»، الصادر عن هيئة الكتاب، وما أعود إليه اليوم فأردده مبسوطًا به، وما أحب أن أكتب، أو يكتب عنى، بعد عشرين سنة أخرى.. «كان هنا شخصٌ يحب الورد وصوت أم كلثوم، يحب حكاياتها، وروايات عشاقها ومريديها».
هى «الآنسة أم كلثوم»، وهى «الست»، هى السلطنة كلها، والجمال خالصًا، والطرب حين تريد، هى التى تستدفئ بدلالها القلوب، وتستحضر مع صوتها أطياف الأحبة، ولحظات الفرح، والشجن، فترقص حبًا وإيمانًا، وتهزمها دموع البكاء وقوفًا على الأطلال.
هى بهجة الإيقاعات الراقصة التى لا يجيدها أحد مثل عبدالوهاب، ومجونه بين صالات الأفراح والموالد والأسواق، وهى عذابات الهوى والانتظار على نواصى الأحلام، يبثها بليغ حمدى شجية، مبهجة، دافئة مفعمة بالمشاعر، ودفقات الحنين. هى التجسيد الأبهى لأصوات السماء حين تغازل عقول الشيخ زكريا أحمد، ورياض السنباطى، ومحمد القصبجى، وصولًا إلى سلطنة الشيخ سيد مكاوى.
هى من تستطيع أن تستمتع بغنائها وحيدًا، أو وسط صحبة، حتى ولو كانت غير متجانسة المزاج، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من عشاق الكلاسيكيات، إلى مجانين أغانى المهرجانات، مرورًا بأسطوات الغناء الشعبى، لا يقف بينك وبينها حاجز، لا وقت معينًا، ولا حالة مزاجية، ولا طقسًا.
الحاضرة دائمًا وأبدًا، بأغانيها، وحكاياتها، وخفة ظلها.. هى التى غاب عليها أحد الملحنين، وقيل إنه غاضبٌ، ويتلكأ أملًا فى زيادة أجره، ولهذا فإنه يتباطأ فى إنجاز اللحن الذى كلفته به، فاتصلت به تمازحه، وتسأله عن اللحن، وعندما أجابها بأن الكلمات صعبة على قدر جمالها، ورغبته فى تلحينها، مضيفًا: «بس إدينى كام يوم كده لأنى محتاج (أتلاءم) مع الكلمات الحلوة دى»، فابتسمت من مراوغته الذكية، وعاجلته بخفة ظلها المعروفة: «وهو إنت ما تعرفش تشتغل من غير ما «تتلائم»؟.. انجز واللى عايزه ممكن تاخده من غير ما تتلائم».
ومما يُحكى عن «الست» أنها أثناء بروفات أغنية «حب إيه» التى كتبها عبدالوهاب محمد، لاحظت حالة بهجة غير عادية على أداء بليغ حمدى، وكانت هذه الأغنية هى أول تعاون له معها، فسألته «مالك.. مش على بعضك ليه يا واد؟» وعندما قال لها إنه مبسوط حبتين لأنه اشترى عربية جديدة، خرجت إلى شرفة منزلها لتراها، وتبارك له عليها، لكنها كانت سيارة صغيرة جدًا فلم تلاحظها، فأشار إليها، وعندما رأتها الست ضحكت قائلة: «والله حلوة.. طب ما طلعتهاش معاك هنا ليه؟».
هى أم كلثوم، بنت الشيخ إبراهيم السيد البلتاجى، والتى تعُرف أيضًا بعدة ألقاب، أبرزها «ثومة» الذى أطلقه عليها المصريون تحببًا وتوددًا، وهى الست، وسيدة الغناء العربى، وكوكب الشرق، وقيثارة الشرق، وفنانة الشعب التى ولدت فى قرية «طماى الزهايرة» بمحافظة الدقهلية، فاختلفت الروايات حول يوم وسنة ميلادها، ولكنها اتفقت على أنها وهبت حياتها كلها للغناء، طفلة، فصبية، ففتاة، وشابة، وأسطورة تستعصى على الرحيل.. حتى فى المرة الوحيدة التى قررت فيها اعتزال الغناء، لم تنجح المحاولة، ولم يساعدها أحد على قرارها، بل جاءتها وساطة العودة من بين مَن حاولوا إسكاتها.
حدث ذلك بعد نجاح ثورة ٥٢، عندما تم منع إذاعة أغانيها من الإذاعة نهائيًا، وسحب منصب نقيب الموسيقيين منها، ولاحقتها اتهامات الغناء للملك، فلم تعتذر، أو تحنِ رأسها، ولم تتخذ موقف الدفاع، أو حتى الرد على من روجوا ذلك ضدها، بل قررت بكل هدوء، اعتزال الغناء، فلم يكن أمام السلطة الجديدة إلا أن ترسل لها وفدًا من جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر وصلاح سالم، لإقناعها بالعدول عن رأيها، فذهبوا إليها كممثلين عن مجلس قيادة الثورة، يعتذرون منها، ويطالبونها بعدم الالتفات إلى هذه الأفعال الصغيرة، ويترجونها العودة.
هى أم كلثوم التى لا أحتاج إلى مبرر للكتابة عنها، لا أنا ولا غيرى.
لا مناسبة، فهى الحاضرة فى كل المناسبات، وهى التى غنت للمناسبات كلها، فجعلتها مناسبات لا تنسى، ولا ذكرى، فهى صانعة الذكريات، كلها.
لا شىء مطلقًا، فقط لأنها أم كلثوم.. أسطورة المحبة والجمال التى تعيش بيننا.