التأسيس الثالث للدولة المصرية
يخاف الكاتب أن يوصف بالنفاق فيسكت عن الحق، هذه نقيصة أخلاقية لا تقل عن النفاق نفسه، هو نفاق من نوع آخر، نفاق للجماهير التى لم ترضها أى سلطة، أو نفاق لمعارضى السلطة، سواء كانوا يعارضون عن حق أو عن باطل.. عن قناعة أو عن مصلحة.. أيًا كان الأمر فلا بأس من أن أقول إننا نمر بلحظة تاريخية.. والسمة الأساسية للتاريخ أنه لا يكون تاريخًا وقت حدوثه.. ولكن بعد حدوثه بسنوات.. الحدث وقت وقوعه هو مجرد حدث.. تشرشل وهو يقود بريطانيا فى الحرب العالمية الثانية ويخرج بها من الهزيمة كان يمارس حياته بشكل عادى جدًا.. بعد سنوات اتضح أنه كان يصنع التاريخ.. وهكذا.. ما ينطبق على هذا السياسى الإنجليزى التاريخى ينطبق على عشرات الأحداث والأشخاص.. لذلك يقال إن «المعاصرة حجاب»، والمعنى أن معاصرتك لحدث أو لشخص تجعلك ترى أن ما يحدث شىء عادى.. لا ترى قيمته.. خاصة إذا كانت لديك متاعب شخصية، وهى عادة موجودة لدينا جميعًا ولا تكاد تنتهى.. هذه «المعاصرة»، التى هى «حجاب»، تجعل الكثيرين لا يرون أننا نعيش حاليًا عصر التأسيس الثالث للدولة المصرية فى العصر الحديث.. التأسيس الأول كان على يد محمد على باشا ١٨٠٥، والتأسيس الثانى كان على يد جمال عبدالناصر ١٩٥٦، والتأسيس الثالث قام به المشير عبدالفتاح السيسى ٢٠١٤.. تجربة محمد على كانت تجربة عظيمة.. أسس المدارس والمصانع والقناطر وأرسل البعوث للخارج، جند أبناء الفلاحين وأسس أول جيش وطنى مصرى.. تجربته انتهت بسبب طموحه الخارجى.. توسع بشكل أقلق الدول الغربية، وقف على أبواب الأستانة فى وقت كان فيه الغرب يريد الحفاظ على «رجل أوروبا المريض».. عقد اتفاقية لندن ١٨٤٠.. وبعدها راح كل شىء حتى عقل الرجل الجبار.. التأسيس الثانى كان على يد جمال عبدالناصر.. أسس جمهورية حديثة.. مشاريع صناعية عملاقة، عدالة اجتماعية وتعليم، وصحة وعمل للفقراء.. مقتله كان فى الخارج.. وحدة غير مدروسة مع سوريا فى ١٩٦١، وحرب غير مدروسة فى اليمن ١٩٦٢، ثم مواجهة عسكرية غير محسوبة مع إسرائيل ورطنا فى جزء منها الأشقاء السوريون.. ثم انتهى كل شىء، الرئيس السادات كان تعبيرًا عن الجناح اليمينى والمحافظ لثورة يوليو، اختاره عبدالناصر بنفسه، كما سبق أن اختار زكريا محيى الدين الذى يحمل نفس الأفكار لخلافته عقب التنحى، حقق العبور المجيد على أروع ما يكون، أعلن انفتاحًا غير محسوب وغير مخطط، أنجز السلام مع إسرائيل بطريقة الصدمة والاستعراض، فأحدث صدمة فعلية للرأى العام المصرى والعربى، قادته الضغوط إلى نوع من الأداء العصبى فخاصم الجميع حرفيًا، وأسدل الإرهاب ستار النهاية، وفى كل الأحوال لم تتح التحولات الحادة الفرصة له لإنجاز تجربة تنمية أو لحصد ثمار هذه التنمية، الرئيس مبارك كان يمتلك ميزة عظيمة تحولت إلى عيب قاتل، كان رجل تهدئة الأوضاع، طبيعته كانت هادئة عكس طبيعة الرئيس السادات، لكنه استوعب الجميع بمن فيهم الإرهابيون والإخوان، والتزم الحذر الشديد فاختنق البلد من الركود، كان يجب أن ينجز مهمته فى تهدئة الأوضاع ثم يرحل، لكن الظرف الدولى والإقليمى كان له دور آخر.. تآكلت الدولة فى عهده، وبدا أنه كطيار يلتزم الطيران المنخفض لأقصى درجة ولمدة ثلاثين عامًا، فى آخر عشر سنوات من حياته فرط فى أصول الدولة بدلًا من أن يضيف لها، كان فاقدًا القدرة على العمل، حتى إن حكومته الأخيرة فكرت فى طرح المشروعات القومية والخدمية لرجال الأعمال بنظام التأجير التمويلى.. لم يحسم مستقبل مصر بعده، واستسلم لمخطط التوريث فقاد الأمور إلى يناير وما بعدها، تراجع الاقتصاد، وتم إنفاق الاحتياطى، انهارت الشرطة، تعرض الجيش للإنهاك فى الشوارع، انهارت السياحة، عمت المظاهرات الفئوية وغير الفئوية، استولى الإخوان على حكم مصر بالتدريج، ولم يستطيعوا حل الأزمة الاقتصادية.. مشهد النهاية قبل ٣٠ يونيو كان طوابير السيارات أمام محطات البنزين، وانقطاعًا متواصلًا للكهرباء، واحتياطيًا نقديًا أوشك على النفاد.. سياسيًا كانت دولة يوليو التى أسسها عبدالناصر قد انتهت مع تولى محمد مرسى، وفعليًا كانت مؤسساتها قد تعرضت للإنهاك والاستنزاف والتشويه، واقتصاديًا كان الوضع على وشك الانهيار، وفى الأغلب كنا سنهرب من مصير ليبيا والعراق إلى مصير لبنان والسودان «مع كل الاحترام والحب للدول العربية الحبيبة».. ما حدث بعد ٣٠ يونيو هو التأسيس الثالث للدولة المصرية، ولو نجحت الدولة «وهى ناجحة بالفعل» فى تجنب الاستنزاف الخارجى فإن هذا التأسيس الثالث سيحقق لمصر ما لم تستطع تحقيقه فى التأسيس الأول والثانى، وأن تأتى مصر متأخرة خير من ألا تأتى على الإطلاق.. وكل المؤشرات تقول إن مصر قادمة بإذن الله.