إصلاح خطاب الإصلاح
مؤخرًا تحدث الرئيس السيسى مؤكدًا إيمانه بحرية الفكر والاعتقاد.. بشكل عام يملك الرئيس السيسى شجاعة لم يملكها غيره، هذه الشجاعة تتمثل فى إبدائه آراء واضحة فى مسائل دينية حساسة، منذ ٢٠١٦ وما قبلها تحدث الرئيس عن مفهوم عام يسمى «إصلاح الخطاب الدينى»، وطالب الأزهر بأن يتحمل مسئوليته التاريخية إزاء هذا الأمر، على خلاف المطالبات التاريخية المتتالية بإصلاح الفكر الدينى، يكتسب ما يقوله الرئيس قوة استثنائية لاعتبارات متعددة.. أولها أنه يصدر من رجل فى قمة السلطة، ويمكنه تحويل ما يؤمن به إلى حقائق على الأرض وفق مقتضيات الواقع واعتبارات السياسة، وثانيها أنه يصدر من رجل عرف بتدينه الوسطى وتأديته الفروض الدينية والتزامه الشخصى والأخلاقى، وثالثها أنه خطاب تنويرى على أرضية مصرية من رجل يفكر فى حال أمته، والفكرة أن منطقتنا قد أرهقها العالم وأرهقت العالم، فقد استخدمت القوى الكبرى الإسلام السياسى والجهادى لمقاومة اليسار، ثم انقلب الحلفاء لأعداء فوجّه الإرهاب نيرانه لقلب أمريكا نفسها، ثم عالجت أمريكا الجريمة بجريمة أخرى فغزت العراق، وتواجدت فى المنطقة، ودعمت الربيع العربى، ثم اكتشفت أن كل ما فعلته باطل، وقبض ريح، وأنها فشلت بامتياز، لكن العالم العربى والإسلامى بقى موصومًا فى أذهان العالم بالتطرف، والتخلف، والاستسلام للماضى، وهى اتهامات يختلط فيها الحق بالباطل، وسوء النية بحسن النية، وتختلط فيها مفاهيم دينية سليمة يستخدمها الإرهابيون بمفاهيم مغلوطة يستخدمونها، وتختلط فيها الرغبة فى الحفاظ على صحيح الدين بالرغبة فى الجمود، والخوف من التجديد، والحفاظ على امتيازات المؤسسة الدينية.. تمامًا كما تختلف نوايا من يطالبون بالتجديد نفسه أو يطلقون على أنفسهم لقب «مفكر تنويرى». فالبعض صادق.. والبعض كاذب.. والبعض باحث عن الحقيقة والبعض يبحث عن منفعة لدى هذه الدولة أو تلك.. أو لدى هذه المحطة أو تلك.. لكن الحقيقة أن حالة الزخم هذه، والتى بدأت مع ثورة يونيو ٢٠١٣، وتصاعدت مع مطالبات الرئيس السيسى، هى أكثر من مفيدة، والحقيقة أنها أثرت فى الواقع فعلًا على عكس ما يتخيل البعض، والحقيقة أنها أثرت فى المؤسسة الدينية بأكثر مما يتخيل البعض، بغض النظر عن الأمور الشكلية، والاعتبارات النفسية لدى بعض مسئولى هذه المؤسسات، إن مجرد طرح أفكار عن تجديد الخطاب الدينى وحرية الاعتقاد، وضرورة التفكر فى علاقة الناس بالدين هو إنجاز، فإذا كان هذا يطرح عبر وسائل الإعلام العامة وبصورة مكثفة فالإنجاز أكبر، وإذا كان يطرح من شخص رئيس الجمهورية وبلغة تناسب المواطن البسيط فالإنجاز أكبر وأكبر.. هناك أثر لكل هذا بالتأكيد، ولكنه أثر تراكمى.. يؤثر ولكن بالتدريج.. إذا نظرنا مثلًا لقضية مثل توثيق الطلاق الشفهى، فإن مجرد طرحها على الرأى العام ودعوة الناس للتفكير فيها هو إنجاز، ومجرد تبنى بعض العلماء والدعاة لفكرة ضرورة توثيق الطلاق الشفهى ودفاعهم عنها هو إنجاز، ومجرد تفكير الناس بالمنطق فى أن كلًا من الزواج والطلاق قد انتقل من مرحلة الشفاهة فى الماضى إلى مرحلة التوثيق فى الحاضر، واعتبار الأمر أمرًا بديهيًا هو إنجاز.. والمعنى هنا أن الدعوة قد حققت أثرها، حتى لو لم تستجب لها المؤسسة الدينية استجابة فورية، أو حتى لو لم تستجب لها فى هذا الجيل من العلماء.. والمعنى أن التغيير يحدث ولكن بشكل تدريجى، والمنطق يقول إن كل جدل بين فكرتين تنتج عنه فكرة ثالثة جديدة تغير الواقع، وهذا هو ما يحدث، يطرح الرئيس فكرة للتجديد فتتفاعل مع فكرة قديمة جامدة، فينتج واقع جديد أو مركب ثالث وهذا فى حد ذاته مكسب كبير، ولو حللنا خطاب الإمام الأكبر د. أحمد الطيب فى السنتين الماضيتين لوجدنا استجابة كبيرة لدعاوى التجديد، واجتهادًا فى توضيح رفق الإسلام بالمرأة، واجتهادًا فى تحديد الأحاديث التى يؤخذ بها وتلك التى يجب أن يتم تجاهلها.. إلخ، وبشكل عام هناك اتجاه للمستقبل، قد تقلل منه طبيعة المؤسسة نفسها، واتسامها بالمحافظة لقرون طويلة، أو اعتبارات مختلفة بعضها نفسى أو شخصى.. لكن الواقع اختلف بكل تأكيد منذ تبنى رئيس الجمهورية مفاهيم إصلاح الخطاب، وحرية الاعتقاد.. يبقى أن الناس تستقبل هذه المفاهيم عندما تشعر أنها صادرة عن أرضية مصرية.. وطنية.. وتصاغ لها بطريقة ملائمة لتفكيرها.. وتنفر منها عندما يقفز عليها بعض أصحاب المنفعة، أو المتاجرين بالأفكار، أو المستفيدين منها مما يخلق أثرًا عكسيًا يستفيد منه الإرهابيون أو أعداء التجديد.. لذلك يجب أن يكون شعارنا.. أهلًا بالتجديد ولا للمتاجرين بالتجديد