عن معنى الدولة والشراكة فى الوطن
منذ أسابيع قليلة، لا يتوقف الحديث عن تغيير وزارى مرتقب، وكأنه هو الحل السحرى لمشاكلنا جميعًا.. فهل نحن بالفعل بحاجة إلى هذا التغيير؟! ما أهميته؟ وماذا يمكن أن يضيف إلى واقع منظومة الحياة فى مصر، التى أظن أنها بحاجة إلى نسفٍ كامل، لا مجرد تغيير للوجوه؟
الحقيقة أننى واحد من الناس الذين يظنون أن النهوض بالحياة فى مصر لن يتسنى لأى رئيس، أو وزير، أو غفير، دون تغيير حقيقى فى ثقافة المجتمع، وآليات علاقته بالسلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية.
لن يتم دون وعى جماعى بمعنى الدولة، وأهمية الحفاظ عليها، والمشاركة الفاعلة فى النهوض بها.. ودون وعى كامل بفكرة الشراكة فى الوطن، والأرض، والممتلكات.. وهذه النقطة، على وجه التحديد، ربما كانت هى الأهم، والأولى بالمراعاة، والتركيز، فى أى خطة حكومية مقبلة.. وإلا، فقل لى، لماذا يكره المصريون الحكومة، أى حكومة، ويناصبونها العداء؟!
ماذا الذى يدفع صبيًا، فى مقتبل العمر، إلى تمزيق المقاعد فى وسائل النقل العام، سوى إحساس متوارث، ودفين، بأنها ليست ملكًا له، أو بأن ممتلكات الدولة لا تخصه، وليس شريكًا فيها.. هو من يدفع تكلفتها، ومن صُنعت من أجله!
ماذا يدور فى عقل شاب يلاحق السائحات فى شوارع القاهرة، وغيرها من المدن السياحية، بنظرات الشهوة، وعبارات التحرش الفاضحة، أو الكراهية، أو الاتهام بالعمل لصالح أجهزة استخباراتية معادية، والتجسس على مصر، والمصريين؟ مَنْ غرس فى رأسه «الشاب» هذه الأفكار، والتصورات، التى أكل عليها الزمن، وبال؟
يقول أحدث إحصائيات السكان فى مصر إن عددنا، تبارك الله، قد تجاوز المائة مليون منذ سنوات، منهم ٣٥ مليونًا على الأقل من الشباب، أى فى سن العمل.. فقل لى، أثابك الله، ماذا يفعلون فى يومهم؟ وماذا هم منتظرون؟ ومن أين تسرّب إليهم ذلك الشعور بالإحباط، واليأس من إمكانية إصلاح الأحوال؟
يقول الواقع إن حياتنا كلها أصبحت قائمة على الاستيراد، منذ أن تحولنا إلى مجتمع مستهلك، لا ينتج أى شىء يمكن تصديره إلى دول العالم من حولنا، بفضلٍ ونعمةٍ من رئيسين منوفيين، باعا كل ما تم إنشاؤه على مر التاريخ من مصانع، وشركات حكومية، إلى مستثمرين أجانب، وبعض من رجال القطاع الخاص، فيما تحولت المصانع الباقية إلى مجرد دفاتر للحضور والانصراف، وتوزيع الأرباح، مع نهاية السنة المالية، على المُوقّعين فى تلك الدفاتر، رغم تأكيد الكشوف والقوائم المالية على الخسارة.
وتقول الإحصائيات إننا نملك سوقًا استهلاكية، لا يمكن مقارنتها إلا بعددٍ محدود للغاية من دول العالم.. مائة مليون فمٍ، لا بد أنها «تأكل الزلط»، فماذا فعلنا بالزراعة؟ لماذا يفكر رجل فى تبوير قطعة أرض شديدة الخصوبة ليبنى عليها، فيما تترامى من حوله الصحراء لا تجد من يسكنها؟ حتى تحولت الرقعة الزراعية إلى مجرد شريط ضيق، وخانق، بل إن أسعارها باتت تستعصى على الملاحقة، والتحجيم، كنتيجة للإقبال منقطع النظير على شرائها، بهدف التبوير والبناء والإهدار.
ما عدد مصانع المنتجات الغذائية التى أنشأناها؟ أو التى تعمل على الإنتاج، أى إنتاج؟
من أين تأتى الجرأة للعاملين فى الصناعة للحديث عن الخسارة، أو المطالبة بإجراءات لحماية المنتج المحلى دون أن يسألوا أنفسهم: لماذا يخسر منتج فى مثل هذه السوق إن لم يكن لصًا، أو «غشاشًا»؟
كنا، وما زلنا، نباهى العالم بما لدينا من آثار، يمكن لعائداتها وحدها أن تجعلنا من أغنى دول العالم، فماذا فعلنا لكى تنشط السياحة؟.. أقول لك.. حاصرناها فى كل مكان بالمتحرشين، والمتسولين، ومشاهد القمامة، وحاصرنا منشآتها بالمرتشين من الموظفين، والمتكاسلين من العمال والموظفين، وغالينا فى تراخيصها، حتى باتت تستعصى على المجهتدين من الراغبين فى دخول السوق، وقصرناها على ذوى الحظوة، والمقربين.
كلنا نعرف ما تم إنشاؤه من مدن ساحلية، تسر الناظرين، وكان من المتوقع أن تصبح قِبلة السائحين حول العالم، فإذا بدبى، المدينة قائظة الحرارة، تستولى على تلك الحركة، فيما مدننا تسكنها الغربان والبوم.
بقليل من التفكير، سوف نكتشف أن هذا الحال لا يقتصر على الزراعة أو الصناعة أو السياحة فقط، لكنه يمتد إلى كل أنشطة الحياة، فى كل شىء، بلا استثناء.. فهل نحن فعلًا بحاجة إلى تغيير وزارى، كامل أو محدود؟ أم أن احتياجنا الرئيسى، والأكثر إلحاحًا إلى شىء آخر؟
يقينى أن الإجابة أبسط من مجرد التفكير فيها.. نحن بحاجة إلى تعليم جيد، ومجتمع يعمل وفق عقلية وتصورات جديدة، ترفع من الوعى بقيمة الدولة، وأهميتها، وترسخ لمعنى الشراكة فى الوطن.
نحن بحاجة إلى شباب يبدأ يومه بالتفكير فى الإنتاج، أى إنتاج، وإلا أصبحنا كما كنا طوال نصف القرن الأخير «عالة على العالم»، اللهم إلا إذا كان يمكن اعتبار السخرية من كل شىء وأى شىء، حتى من أنفسنا، سلعة يمكن الاعتماد عليها.