المسئولية الاجتماعية.. الفريضة الغائبة «٢»
فى مجتمع يسعى لمحاربة الفقر، وتخوض قيادته سباق التنمية تصبح النافلة فريضة، ويصبح التطوع واجبًا، ويصبح فقه الأولويات هو الفقه الأولى بالاتباع والتطبيق، والمعنى أن حالنا وحال شركاتنا الآن معكوس إذا قارناه بالغرب، فى الغرب أوضاع اقتصادية مستقرة، وموازنات حكومية وافرة، ونسب فقر قليلة، ومع ذلك تتسابق الشركات الكبرى هناك للقيام بمسئوليتها الاجتماعية دون دعوة، ودون تحريض، تلبية للوازع الأخلاقى، وإيمانًا بالنظرية الأخلاقية وحرصًا على قيم الإنسانية، وفى واقعنا نحن الذى تزداد فيه معدلات الزيادة السكانية، والحاجة للتنمية، وتقود الدولة مشروعًا لتوفير الحياة الكريمة لأهل الريف، ومشروعًا موازيًا لمحاربة الفقر بشكل عام، فى هذا المجتمع الذى يحتاج لكل قرش يمكن توفيره.. تتباطأ استجابة بعض الشركات لنداء المسئولية الاجتماعية، ويتظاهر بعضها بأنه «من بنها» على حد التعبير العامى الشهير، فى حين يقوم بعضهم بأنشطة هزيلة لا تتناسب مع مستوى نشاطه وأرباحه ذرًا للرماد فى العيون، والحقيقة أن أى مستثمر يعمل فى مصر هو فى النتيجة النهائية مدين وليس دائنًا، وعليه واجب، كما أن له حقوقًا.. إننى لا أتحدث عن الحالات التى شاع الحديث عنها منذ سنوات طويلة، الذين تم تمكينهم من الاستيلاء على الأراضى او احتكار أسواق بعينها أو غير ذلك مما عرفناه جميعًا، فقد تكفلت الدولة بالتعامل مع هذه الحالات بحكمة ووعى، لكننى أتحدث عن عشرات الآلاف من أصحاب الأنشطة الاقتصادية المختلفة المدينين للمواطن المصرى.. إن هذا المستثمر لو عمل فى دولة ثرية مثل «الكويت» مثلًا فهو يستهدف سوقًا قوامها مليونا مواطن، ولو عمل فى الإمارات مثلًا فهو يستهدف سوقًا قوامها ٩ ملايبن مواطن وهكذا، لكنه عندما يعمل فى مصر فهو يستهدف مائة مليون مواطن، يشكلون سوقًا ضخمة تعنى أرباحًا فورية، مع ملاحظة أن الدولة طوال سنوات الرخاوة فى العقود الماضية لم تكن تشترط مواصفات عالمية للمنتجات التى تباع للمصريين، لا تلك المستوردة ولا التى تباع فى مصر، وقد أدى هذا إلى تراكم الأرباح بشكل قد يصعب تصديقه لدى المواطن العادى، ما يجعل مسارعة رجال الأعمال والشركات فى المسئولية الاجتماعية واجبًا مضاعفًا، فإذا كانت الشركات الغربية التى تضيف للمعرفة، وتعمل وفق القانون، وتدفع ضرائب صارمة لا تتخلى عن مسئوليتها الاجتماعية، فما بالنا ببعض من لا يفعل ذلك كله ثم يتهرب من مسئوليته الاجتماعية؟، لقد أتاحت لى ظروف اجتماعية معينة أن أتعرف عن قرب على رجل صناعة سورى من مدينة حلب، أثناء زيارة لى للمدينة لأمر خاص، قال الرجل إنه يملك مصنعين صغيرين للملابس، وإنه يصدّر بضاعته لروسيا، لفت نظرى أن الرجل يعيش حياة معتدلة للغاية، فهو يركب سيارة كبيرة ولكنها كورية الصنع، ويسكن فى منزل نظيف لكنه شقة سكنية وليس قصرًا أو فيلا، وبشكل عام لاحظت أنه يعيش مثل الشريحة العليا من الطبقة الوسطى المصرية، هذا الرجل لو جاء إلى مصر سيتحول غالبًا إلى ملياردير، وسيراكم الملايين يوميًا، وسيتزوج عدة مرات مثل شهريار، وسيقيم الأفراح والليالى الملاح فى كل مرة يتزوج فيها، والسبب أن منتجاته تباع فى سوق ضخمة جدًا، وأن مواصفات الجودة تكاد تكون معدومة، وأن هامش الربح غير محدد إطلاقًا، فهو يمكن أن يكلف السلعة جنيهًا ويبيعها بمائة جنيه، وأى محاسب ماهر يمكن أن يدله على مائة طريقة للتهرب من الضرائب، والدخول معها فى منازعات قضائية تستمر سنوات.. ليس هذا تحريضًا منّى على القطاع الخاص، فلدينا نماذج محترمة ومشرقة ومضيئة، لكنه حديث عن فضل هذا البلد على بعض مَنْ يبخلون عليه، هذا بلد آمن مستقر، الأمن فيه مستتب، والدولة قادرة وماهرة، وهذا الاستقرار يستدعى مزيدًا من الحفاظ عليه، والقيام بالمسئولية الاجتماعية يساعد على هذا الاستقرار ويدعمه.. وهى حكمة يجب أن يفهمها أصحاب ١٥٦ ألف شركة مصرية.. وكل لبيب بالإشارة يفهم.