الروائي محمد توفيق: التفكير الناقد سلاح أكثر فعالية لمواجهة التطرف ( 1ــ 2 )

محمد توفيق روائي ودبلوماسي٬ كان سفيرا لمصر لدى الولايات المتحدة الأمريكية، صدر له روايات: "ليلة في حياة عبد التواب توتو"  ــ "طفل شقي اسمه عنتر" ــ "فتاة الحلوي" وتشكل ثلاثية تتناول تطور المجتمع خلال القرن العشرين والسنوات الأولي من القرن الواحد والعشرين، كما صدرت له المجموعات القصصية: "الفراشات البيضاء" ــ "عجميست"ــ نوفيلا بعنوان "حتي مطلع الفجر". 

يدير ورشا للكتابة الإبداعية بانتظام منذ 1998، له تحت الطبع مجموعة قصصية بعنوان "التمساح رقم 6"، يمتلك الكاتب ناصية اللغتين العربية والإنجليزية٬ ودأب علي ترجمة أعماله ذاتيا إلي الإنجليزية٬ وقد نشرت قصصه ومقالاته في دوريات أدبية وصحف مصرية وعربية وعالمية.  

صدرت له بالإنجليزية مجموعة قصصية  The Day the Moon Fell عن دار الفكر العربي في 1996، وروايتا Murder in the Tower of Happiness  و Candygirl  المترجمتان عن العربية والصادرتان عن دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة عامي 2008 و 2012 على التوالي، كما صدرت أولاهما في طبعة بريطانية عن Arabia   Books .

اختارت الجامعة الأمريكية بالقاهرة "فتاة الحلوى" كرواية مقررة على كافة طلبة السنة الأولى في جميع التخصصات للعام الدراسي 2014-2015 ، ونظمت حولها أنشطة وحوارات عديدة.

حول أحدث أعماله الروائية "همس العقرب"، الصادرة عن دار العين للنشر، والكتابة الإبداعية بغير لغته الأمة، والعلاقة بين الشرق والغرب كان لــ"الدستور" هذا اللقاء معه فإلى الجزء الأول منه.

◄ يمكن تصنيف "همس العقرب" بأنها من الروايات التي تتناول العلاقة بين الشرق والغرب، والتي في أغلب الأحيان تكون معقدة كنموذج بطلي روايتك فيما يلتقي الشرق بالغرب وفيما يفترقان؟

الرواية مستوحاة من رحلة صحراوية قام بها أحمد حسنين (الذي صار لاحقا رئيسا للديوان الملكي المصري) والمستكشفة البريطانية روزيتا فوربز إلى واحة الكفرة في الصحراء الليبية عام 1920 - 1921، ولهذا يمكن فعلا أن نعتبر أنها تتناول علاقة الشرق بالغرب، وإن كنت أفضل أن أقول إنها تستكشف الأبعاد المختلفة لانبهار النخب في العالم الثالث بثقافة المستعمر وإنجازاته من جهة، ونظرة الغرب الرومانسية تجاه الثقافات التقليدية من جهة أخرى. وإن تناولنا الانبهار الشرقي بالغرب سنجد أنه يوازنه إدراك النخب نفسها لنوايا المستعمر التي لا تكون في الأغلب بريئة، واعتزازها في الوقت ذاته بتاريخها وثقافتها، وحرصها على الحفاظ على هويتها الوطنية، فضلا عن استقلال إرادتها السياسية وخياراتها الاقتصادية، وتحرص الرواية في هذا الإطار تحديدا على إلقاء الضوء على التناقض النفسي لأفراد هذه النخب، والتناقض بين قطاعات مختلفة من الشعوب المستعمرة، والذي ينعكس بالضرورة على المستويين السياسي الاجتماعي، ولا يزال هذا التمزق الفكري مؤثرا حتى بعد تحقيق الاستقلال، لأن علاقة المركز بالأطراف التي وصَّفها المفكر الكبير "سمير أمين" لا تزال السمة الرئيسية للمجتمع الدولي، على الأقل فيما يتعلق بالمركزية الثقافية والتكنولوجية.

ــ كتابات بالإنجليزية، هل تختلف الكتابة السردية بين اللغتين وفيما هذه الاختلافات؟

أكتب باللغتين العربية والإنجليزية وأترجم أعمالي من الواحدة إلى الأخرى بانتظام، وبينما بدأت ممارسة الترجمة الذاتية بغرض الاطمئنان على سلاسة النص المترجم والحفاظ على روحه في السياق الثقافي للغة الأخرى، فإن الأمر تطور مع الخبرة وبفعل الزمن لتتحول الترجمة الذاتية بالنسبة لي إلى أسلوب فني للكتابة الأدبية، فالنص يبدأ بإحدى اللغتين ثم يترجم للغة الأخرى ثم يعاد للغة الأولى وتستمر هذه العملية لعدة دورات يتطور النص خلالها بشكل مستمر، حتى ينتهي به الأمر متبلورا باللغتين، ورغم أن هذا التكنيك يستغرق جهدا كبيرا وزمنا يقاس بالسنوات بل والعقود، فإن استيعابي كمؤلف للنص يكون أكبر، وهو ما ينعكس على عناصره المختلفة كاللغة والبناء والشخصيات، وهناك جوانب فنية معقدة في هذه العملية لاختلاف اللغتين من حيث الموسيقى الداخلية، تسلسل الأفكار ومنطقيتها،والتصوير والمجاز، وتركيب الجمل. وتتحول اللغة بهذا التكنيك إلى رحلة بل مغامرة. 

أما فيما يتعلق بالرموز – فاللغة الأدبية تعتمد بالدرجة الأولى على الرموز بالمعنى الفرويدي – فإن اختلاف الأبعاد الثقافية بين المتكلمين باللغتين تؤدي إلى مراجعة الرموز المحدودة ثقافيا، واستبدالها بأخرى إنسانية شاملة، وذلك وفقا لمفهوم كارل جوستاف يونج الخاص بالعقل الباطن الجمعي للبشر. 
 

ــ هل كان شغف بطلة "همس العقرب" "روز" بالصحراء نابع من روح مغامرة أم أنها تؤدي دور استشراقي طليعة للغزو العسكري كما حدث في نماذج تاريخية كــ "لورانس العرب"؟

أشرت إلى نظرة الغرب الرومانسية تجاه الثقافات التقليدية أو البدائية، "روز" ممرضة فقدت أحبابها كلهم في الحرب العالمية الأولى، لمست أفظع أشكال المعاناة في المستشفيات الميدانية، فلم تجد أمامها إلا الهروب بعد نهاية الحرب، بحثا عن عالم جديد أكثر نقاءا وأقل قسوة، وتجربة حب جديدة أكثر تلقائية، فضلا عن رغبتها في إثبات ذاتها كامرأة في عالم لم يصل بعد إلى حتمية الاعتراف بحقوق المرأة. فذهبت إلى قلب الصحراء. ورغم براءتها من النزعات الاستعمارية المباشرة، إلا أن الرواية تشير ضمنا إلى أن المشروع الاستعماري يوظف الجميع لتحقيق أغراضه بغض النظر عن نواياهم، وأن الامبراطوريات تسحق من يقف في طريقها دون رحمة، الأمر الذي لم يتوقف إلى يومنا هذا.    

ــ هل تسد الرواية التاريخية الثغرات الطفيفة في التأريخ الكبير الرسمي وترصد المسكوت عنه في التاريخ الرسمي وإلي أي مدي تنجح في ذلك؟

لا توجد وسيلة متكاملة لكتابة التاريخ، في حين أن المؤرخ الحديث يلجأ إلى أدوات تقنية لم تكن متوفرة في السابق، ويطبق منهجا بحثيا أكثر تدقيقا وشمولا، إلا أن هناك دائما مناطق مظلمة سواء لأنها غير موثقة أو لأن المصادر تتضارب بشأنها، وهي المناطق التي تستكشفها الرواية التاريخية من خلال توظيف الخيال، فتضع صورة مجسمة بدرجة أكبر أمام القارئ، ومن المهم أن يدرك القارئ أن الرواية ليست بحثا تاريخيا، أو مصدرا يعتد به للحكم على شخوص التاريخ أو أحداثه، وإنما رؤية أدبية تستلهم القضايا التاريخية لتسقطها على الواقع المعاصر، فمن المهم أن يحرص الروائي على مصداقية عمله من خلال بحث مضني واهتمام بصحة التفاصيل ودقتها، مع إطلاق خياله في البناء النفسي للشخصيات، وفي نقد الروايات الرسمية وتحديها كلما اقتضى الأمر، والأهم هو دور الرواية في إظهار البعد البشري للأحداث التاريخية، وهي رسالة مهمة سواء من حيث نزع التقديس عن الشخصيات التاريخية، أو إبراز الثمن الذي يتكبده البشر لتحقيق الأمجاد التي يتغنى بها المؤرخون الرسميون.    

ــ ثلاثيتك الروائية:  ليلة في حياة عبد التواب توتو ــ طفل شقي اسمه عنتر وفتاة الحلوي، ما هى الظواهر التي رصدتها والتغيرات المجتمعية خلال السرد الروائي؟

 "ليلة في حياة عبد التواب توتو" تبدأ بحادث اغتيال السادات في 6 أكتوبر 1981، ثم تعود زمنيا لأواخر القرن التاسع عشر من خلال تاريخ أسرة مصرية ممتدة، وتهدف لاستكشاف التحولات التي طرأت على المجتمع وصولا لصعود التيارات المتطرفة وحادث المنصة، أما"طفل شقي اسمه عنتر" فتتناول الأشهر الأخيرة من القرن العشرين، وانكسار الأحلام، وهيمنة الأثرياء الجدد، انتهاء بحفل رأس السنة الصاخب للألفية الجديدة، أما الثالثة "فتاة الحلوى" فتبدأ بحادث إعدام صدام حسين يوم العيد في 2007، وتستكسف التدخل الأمريكي السافر وآثاره على المنطقة، وأيضا الهيمنة المتعاظمة للعالم الافتراضي ومنصات التواصل الإجتماعي على حياة الناس، وكيفية توظيفها لتحقيق أغراض الدول المتقدمة، وذلك على سبيل استشراف مستقبل المنطقة المضطرب، وأهم ما أبحث عنه في أعمالي كيفية تأثر البشر بحركة التاريخ، دون أن يكونوا مدركين بالضرورة للصورة الكبرى ومحركيها، عم فقط ضحاياها.  

ــ بعد تصريحات الرئيس السيسي حول المعتقد الذي نرثه، كيف تري دور الثقافة في مكافحة الإرهاب ؟

تصريح الرئيس السيسى له أهمية خاصة، لأنه يأتي في سياق سلسلة من التصريحات على مدار السنوات الماضية تدفع في اتجاه الوسطية والتسامح الديني، ما يدل على أنها تعبر عن رؤية عميقة مستقرة، وتوجه عقلاني مؤثر في الحاضر وأكثر تأثيرا في تشكيل المستقبل. وأرى أن على المبدعين مسئولية خاصة في دفع قيم الحضارة والاعتدال والتعددية والمواطنة، وبينما لا أتناول شخصيا القضايا الدينية في كتاباتي بشكل مباشر، فإنني أركز على المفاهيم التالي:
 

أولا: التنوع سنة الحياة، وقبول الآخر تتعدى في مفهومها مجرد تقبل الأديان والثقافات المختلفة بوصفه أمر واقع لا سبيل لتغييره، وإنما على اعتبار أن التعددية والتنوع من مصادر القوة والابتكار في المجتمعات، والثقافة المصرية لها روافد عدة، فمصر فرعونية هيلينية رومانية قبطية عربية إسلامية أفريقية متوسطية أسيوية، وكانت ولا تزال مرحبة بالأفراد والجاليات من أنحاء العالم، وهذه المكونات صنعت ثقافة إنسانية رحبة علينا أن نعتز بها وندافع عنها، وتنوعا علينا أن نحتفي به.  

ثانيا: لكل إنسان قناعاته، لكن محاولة فرضها على الآخرين لا تأتي من رسوخ العقيدة، وإنما هي محاولة مكشوفة لتوظيفها من أجل التسلط، أو للتغطية على الخواء النفسي والإخفاق الأخلاقي.

ثالثا: الإنسان السوي من يتبنى منهج التفكير النقدي، فيحكم عقله ويبحث دوما عن الحقيقة، ولذلك يصعب على التيارات المتطرفة السيطرة عليه وتوظيفه من أجل القتل والتخريب، وتشجيع التفكير النقدي ضروري لأنه السلاح الأكثر فعالية في مواجهة التطرف. والدراسة النقدية للتاريخ كذلك من سمات المجتمعات الناجحة، لأن قراءتها للتاريخ هدفها الوصول للحقائق والاستفادة منها لفهم الواقع وبناء المستقبل، لذلك تتجنب هذه المجتمعات أسطرة التاريخ، والتي هي من سمات التخلف، ولا تساهم في بناء جيد، بل تؤدي إلى تكرار أخطاء الماضي، وتضع المجتمعات في حلقة ثقافية مفرغة لا تجد منها مخرجا.