نجيب وعبدالوهاب.. و«أستيكة» الإبداع القاسية
وصلتنى مؤخرًا أنباء عن بعض الكتابات المراهقة بشأن «تجاوز نجيب محفوظ»، أو مجاورته، أو ما شابه من عبارات مضحكة يطلقها بعض المهرجين الذين دخلوا عالم الكتابة على طريقة شعبان عبدالرحيم «رحمه الله».
اعتمد شعبان فى حضوره الغنائى والفنى على نموذج الشخص «الهلهلى» العبثى، الطيب، الذى يتصرف على طبيعته، ووفق بيئته الشعبية، مع بعض اللمسات «الكاريكاتورية» المضحكة، والتى كان يعلم جيدًا أنها «بتاكل» مع عموم المصريين، وتفتح شهيتهم للضحك والسخرية، لا فارق عنده إن كانت السخرية من كلماته أم من مظهره أم من غنائه، المهم أن يعرفه الناس، وتصيبه الشهرة، وليكن ما يكون.
هذا بالضبط ما يفعله حاليًا بعض «صغار الكتاب» ومحدودى الموهبة، فى ذكرى روائى مصر الأكبر نجيب محفوظ، والحقيقة أننى كنت أعتزم الكتابة للرد أو التعليق على تلك «الكتابات الصغيرة»، لكننى تراجعت، فنجيب أكبر من هؤلاء، ومنجزه وحده كفيل بالرد والإثبات والحضور.. هو «أستيكته» القاسية القادرة على محو أى أثر لمثل تلك «الحماقات المتهافتة».
ولعله من المناسب هنا أن أذكر أننى لوقتٍ طويل، لم تكن علاقتى بموسيقى محمد عبدالوهاب بحالة جيدة. لم يكن ذلك بسبب ما تناثر حوله من اتهامات بالسرقة، والسطو على جمل موسيقية غربية وتضمينها فى ألحانه، فقد رد عليها جميعًا فى حينها، وعندما رحل الجميع، ظلت موسيقاه باقتباساتها، وجمالها، وفتنتها الآسرة.
وقتها كنت أظن أنها موسيقى بلا روح، لا تهتم بغير الإيقاع، والزخارف الموسيقية، وكنت، وما زلت، من مريدى مدرسة بليغ حمدى التعبيرية فى الغناء، لكن أمرًا ما قد حدث، فغير من علاقتى بهذا الموسيقار الفذ، وفتح عينى على جمال ما بعده جمال، وكانت «جفنه» هى الأغنية التى عرفت فيما بعد أنها أشعلت جنونه الموسيقى، وغيرت مسار أول أفلامه «الوردة البيضاء»، فلحنها فى ساعات معدودة على إيقاع «الرومبا» الأمريكى، ومقام العجم، على غير المعتاد فى معظم القصائد التى لحنها، والتى كان يفضل أن تأتى على مقام «البياتى»، مبررًا ذلك بقوله «إن التلاوات القرآنية تبدأ عادة بالبياتى، لأنه المقام المفضل لدى قراء القرآن، ولدى عموم المصريين».
الملفت أن كل صوت جديد تصدى لهذه الأغنية، كان يكشف لى ملمحًا من مكامن فتنتها، وجمالها، لأكتشف بعد سنوات من الطرب بها، أنها ليست مجرد مقطوعة موسيقية مغناة، بل ست دقائق كاملة فى حضرة الجمال، وفى محبة الجفون وجاذبيتها، فى التغزل بفتنة العيون وطاعة الحُسنِ إن أمر، وفى النشوة بخمر القُبلة الراضية.. ست دقائق كاملة، هى عمر تلك الأغنية التى فتحت لى عالم عبدالوهاب الموسيقى، وروعته، وأدخلتنى إلى ساحة الفتنة بالموسيقار المولع بالتجديد، لا يوقفه حد، ولا تحده حدود.
عندما سمعتها للمرة الأولى بصوت على الحجار، كنت مفتونًا بالمقطع الختامى منها، الذى تقول كلماته «يا حبيبى.. أكلما ضمنا للهوى مكان، أشعلوا النار حولنا؟».. هنا يتحرك الحجار فى المساحة الشرقية التى حررها عبدالوهاب لنفسه من زخم إيقاع الرومبا الغربى المستورد، والجمل الموسيقية القصيرة الراقصة، فتظهر مساحات صوته الواسعة، ليصول ويجول وحده فى ملكوت النداء «يا حبيبى»، خصوصًا أداة النداء «يا» التى لعب بها عبدالوهاب ولعب معها، فأشعلت صوت الحجار، وتلاعبت به، حتى إننى لا أظن أن على الحجار تمكن من العثور على مثل هذه المساحة للتجول بين المقامات بمثل هذه الخفة، والحرية المطلقة.
وعندما سمعتها بصوت صابر الرباعى، اكتشفت أن هناك الأجمل، هناك «هاتها من يد الرضا، جرعة تبعث الجنون، كيف يشكو من الظما من له هذه العيون؟»، هنا كمٌ لا حدود له من الغزل المحبب الذى ينساب على حنجرة «الرباعى» الصافية، ينتهى بتساؤل حاسم، بإجابة واحدة وحيدة، لا تملك معها إلا أن تنساب مع روعة الإيقاع الغربى الراقص، وهو يسير متخفيًا كإطار لكمات مكتوبة بالفصحى صعبة المراس.
وهنا كان لى أن أُقدم على المغامرة التى ترددت أمامها كثيرًا، وكان أن قررت أن أستمع إلى الأصل، إلى عبدالوهاب نفسه، لأراه وهو يبرز مزاجيته الشرقية، ويعطى لنفسه المجال فى منتصف الأبيات العشرة المكونة للقصيدة، لكى يغنى موالًا شعبيًا لطالما تاق إليه، وطارده، فيمهد له بداية من مقطع «يا حبيبى» بفاصل موسيقى شرقى عذب، لينطلق بعدها مداعبًا الجميع.
وهنا كان لى أن أراه وهو يمسح كل هؤلاء الذين جاءوا بعده «بأستيكة قاسية»، هى بالضبط ذات «الأستيكة» التى يمحو بها نجيب محفوظ كل ما يلحق بثوبه من غبار.