حضرة المحترم «1».. نجيب محفوظ: أسرار حياتى فى الوظيفة
الوظيفة أخذت نصف يومى لمدة ٣٧ سنة وعلمتنى النظام
كامل كيلانى نصحنى بإخفاء شخصيتى الحقيقية عن الموظفين
لم يتفرغ للأدب بطريقة كاملة فى مصر سوى العقاد
الأسباب الحقيقية لإلغاء ترقيتى بعد الحصول عليها بأقل من ٢٤ ساعة
كان الناقد الكبير رجاء النقاش واحدًا من قليلين امتلكوا مفاتيح نجيب محفوظ، وقد سجل مذكراته عبر سلسلة حوارات طويلة جمعها فى كتاب صدر عن مركز الأهرام، ثم صدر مرة أخرى عن دار الشروق، وحمل عنوان «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ».. ورغم الطبيعة المتحفظة للأستاذ نجيب فإنه تكلم بصراحة كبيرة مع «النقاش» فى نواح كثيرة.. منها عاداته أيام الشباب، ومغامراته، وعلاقته بأدباء عصره.. وصداقاته المختلفة، وكان من أهم الأبواب ذلك الباب الذى تحدث فيه عن علاقته بالوظيفة، حيث ظل الأستاذ نجيب موظفًا منذ ١٩٣٥ وحتى ١٩٧٠.. قضى عشرين عامًا منها فى وزارة الأوقاف، يخفى أنه كاتب عن زملائه، وقضى الشطر الثانى موظفًا فى وزارة الثقافة بمسمياتها المختلفة، وقد كفلت له الوظيفة نوعًا من الاستقرار المادى جعله يستمر فى الكتابة، وأعفته من العمل فى الصحافة التى كان يرى أنها مضرة للكاتب، وأطلعته على مئات من النماذج..
فى هذا الفصل يتحدث نجيب محفوظ عن أهم مصادره التى اعتمد عليها فى حياته وأدبه وهى «الوظيفة الحكومية»، حيث عمل موظفًا لمدة ٣٧ سنة بعد تخرجه فى الجامعة مباشرة، تنقل خلالها فى وظائف عدة بوزارة الأوقاف والجامعة، ثم مؤسسة السينما التابعة لوزارة الثقافة، وارتقى وظيفيًا حتى وصل إلى درجة «نائب وزير» فى مؤسسة السينما، ثم أحيل إلى المعاش سنة ١٩٧١.
ويعترف نجيب محفوظ بأنه رغم استفادته القصوى من الوظيفة كمتحف حى للنماذج البشرية، ونقله تفاصيل كثيرة من شخصيات عرفها إلى أدبه، وهو نوع من النقل الفنى وليس نقلًا تسجيليًا فوتوغرافيًا، إلا أنه كان يتمنى أن يكون للأديب وضع مختلف فى مصر، يمكنه إذا ما أصدر كتابًا مميزًا من التفرغ للأدب بصورة كاملة.
إن محفوظ ينقلنا فى هذا الفصل إلى دهاليز الوظيفة الحكومية فى مصر وأسرارها فى عصر ما قبل ثورة يوليو ١٩٥٢ وما بعدها، وفى هذا الحديث عن الوظيفة يساعدنا نجيب محفوظ على رسم خلفية دقيقة لفهم أدبه، ويتميز محفوظ هنا كعادته بخفة الظل والروح الفكاهية وهو يتذكر تفاصيل دقيقة مرت عليها سنوات طويلة.
نجيب محفوظ: أعطتنى حياتى فى الوظيفة مادة إنسانية عظيمة وأمدتنى بنماذج بشرية لها أكثر من أثر فى كتاباتى، ولكن الوظيفة نفسها كنظام حياة وطريقة لكسب الرزق، لها أثر ضار أو يبدو كذلك، فلقد أخذت الوظيفة نصف يومى ولمدة ٣٧ سنة، وفى هذا ظلم كبير، ولكن الوظيفة، فى الوقت نفسه، علمتنى النظام، والحرص على أن أستغل بقية يومى فى العمل الأدبى، قراءة وكتابة، وجعلتنى أستغل كل دقيقة فى حياتى بطريقة منظمة، مع عدم تجاهل أوقات الراحة والترفيه، وهذا فى تصورى أثر إيجابى للوظيفة فى ظل ظروف المجتمع الذى نعيش فيه، فمن المستحيل أن يتفرغ الأديب فى مصر، ولو كنا مثل أوروبا، وصدر لى كتاب متميز لتغيرت حياتى، وكنت استقلت من الوظيفة وتفرغت للأدب، لأن الكتاب المتميز يحقق إيرادًا يكفى لاتخاذ مثل هذه الخطوة.
أمدتنى الوظيفة بنماذج بشرية كانت غائبة عن حياتى، فأنا أعرف الأسرة والجيران والمدرسة والجامعة والمقهى، ثم أتاحت لى الوظيفة مجالًا حيويًا مختلفًا فعرفت نماذج جديدة لم أكن أعرفها، وعرفت مكانة الوظيفة فى مجتمعنا وكيف أنه مجتمع «بيروقراطى» والقيمة الحقيقية فيه هى قيمة «البيروقراطية» والمكانة الوظيفية، والجميع يحرص على الوظيفة، حتى إن أى متخصص فى مجال فنى أو هندسى قد يحرص على الترقية ليصبح إداريًا، وينسى الفن والهندسة وهما عماد حياته وتألقه، ويكون هدفه الوحيد أن يصبح «وكيل وزارة» مثلًا، الوظيفة أهم شىء وهى القيمة والمكانة ومصدر الوجاهة والنفوذ.
جوائز الدولة تذهب كلها إلى موظفين كبار، ولذلك لا أستغرب رؤية أديب نابغ يبحث عن وظيفة فى مؤسسة إعلامية أو صحفية أو يرأس صفحة أدبية ليصبح نجمًا بالموقع وليس بالقيمة الحقيقية، وقد يكون إنتاج هؤلاء الأدباء جيدًا ويستحق الإشادة به، ومع ذلك فإنهم لا يتألقون إلا إذا تمكنوا من الحصول على وظيفة تتيح لهم الترقية والظهور.
ولقد كان عباس محمود العقاد استثناء من هذا كله، وأصبح عظيمًا مرموقًا بلا وظيفة أو مكانة «بيروقراطية»، وكان يدافع عن مكانته بكل قوة، وكان أى وزير يتجنب هجوم العقاد عليه لسطوته ونفوذه بين الناس، وهو الوحيد «غير البيروقراطى» الذى كان يخشاه «البيروقراطيون»، فهم العقاد أن مصر «بلد وظائف» وعندما يأتى أديب ورائد فى فن القصة مثل «محمود تيمور» المستغنى عن الوظيفة لثرائه، فإنه يحصل على منزلته بماله الخاص، هذه هى مصر منذ أيام الفراعنة، الفرعون إله، وهؤلاء الموظفون أنبياؤه ورسله، وقد دعم المجتمع هذه النظرة للوظيفة.
فالمريض لا يذهب إلى عيادة طبيب ليس موظفًا فى وزارة الصحة أو فى كلية الطب. والمحامى الشهير الذى يكسب الآلاف سنويًا يترك المهنة وربما يغلق مكتبه ليصبح مستشارًا ويعتبرها ترقية. وكما قلت فإن تركيبة المجتمع فى مصر على هذه الحال منذ قديم الزمان، ربما منذ أن فكر مينا فى توحيد القطرين، وتأمين الفلاح على رزقه وتوزيع المياه، وأصبح للحاكم مندوبون فى الأقاليم، ومن يومها تكون جهاز وظيفى بيروقراطى مقدس، وينظر أغلبية المصريين لهذا السبب إلى الموظف على أنه مندوب الله، وصرفوا النظر عن العقل والذوق والمهارات. تذكرنا مينا، ونتذكر خوفو ولكننا لا نعرف صاحب المعجزة الهندسية فى بناء الأهرامات، ولا أحد منا يعرف اسم المهندس الذى بناها، وهذا شىء غير طيب، ومعظم فنوننا القديمة مجهولة الأسماء، أما على الجدران فنجد أسماء بعض المحترفين على شكل إمضاء.
وقد يحمل المستقبل أملًا فى تغيير نظرة المجتمع إلى الوظيفة والموظفين، ونحن نسمع الآن عن بعض الذين يحملون شهادات عليا ومع ذلك فهم يعملون فى مجالات بعيدة عن تخصصهم تمامًا، وقد حكى لى صديقى المخرج السينمائى توفيق صالح أنه زار ابنته ذات مرة فوجدها مهمومة لأن الرجل الذى ينفذ لها أعمالًا فى حمام بيتها تأخر عن موعده، ولما سألها عن هذا الرجل قالت: إنه يعمل فى الصباح مأمور ضرائب وفى المساء يقوم بأعمال «السباكة»، وهذه الظاهرة طيبة خاصة إذا كان من يمارسها يحترمها ويحترم نفسه معها، فهو يقوم بعمل شريف لترقية حياته وسد احتياجاته وسوف ينظر المجتمع بالتدريج إلى مثل هذه الظاهرة بالاحترام، لأنها سعى شريف من أجل الرزق، ومحاولة للبحث عن النجاح فى أى مهنة ذات موارد جيدة قد تغنى عن الوظيفة الحكومية بصرف النظر عن الشهادة الجامعية التى يحملها صاحبها والتى ينبغى أن يكون الأصل فيها هو التحصيل والتعليم أولًا وقبل كل شىء.
ومع التغيير فى نظرة المجتمع إلى الوظيفة ونوعها تعودنا على احترام كل جهد يقوم به الإنسان من أجل ترقية حياته مهما كان هذا الجهد متواضعًا، ومن الممكن أن تساعدنا هذه النظرة الجديدة على تعميق الديمقراطية فى حياتنا، ولن نجد صعوبة فى تقبل وضع وزير سابق يدير مكتبة لبيع الكتب، أو رئيس جمهورية ترك منصبه بعد نهاية مدته المقررة، وأخذ يعيش حياته العادية وقد نراه يجلس بيننا فى مقهى «ريش» بعد أن انتقل من وظيفته الرسمية كرئيس وأصبح مواطنًا عاديًا يعيش بين الناس كما يعيش كل الناس، وهذه هى روح الديمقراطية الحقيقية التى نأمل أن تتحقق فى بلادنا بالتدريج.
وقد روى لى الأديب القاص مصطفى أبوالنصر أنه كان فى رحلة له إلى روما وأثناء جلوسه فى أحد المقاهى العامة سأل «المرشد السياحى» الذى كان معه عن شخص جالس يتكلم ويضحك مع مجموعة تلتف حوله، فأجابه بأنه رئيس جمهورية إيطاليا السابق، وفى مصر إذا ما أنهى الوزير عمله فإنه يسعى إلى العمل فى وظيفة أستاذ فى الجامعة، وذلك على طريقة هنرى كيسنجر فى أمريكا، ولكن الوزير عندنا بعد أن يترك الوزارة لا يعمل مزارعًا مثلًا ولا يتحمل أن يصبح مواطنًا عاديًا من بين الملايين فى المجتمع، ويظل هذا الوزير متمسكًا بلقب «وزير سابق» إلى النهاية، كذلك فإن من ذيول نظرة المجتمع المتخلفة إلى الوظيفة إصرارنا على أن يلحق باسم الموظف لقب دكتور أو أستاذ أو كاتب كبير، وكلها أشياء يجب أن نتخلص منها فى المستقبل حتى يصبح الإنسان فى حد ذاته أكبر من أى وظيفة مهما كانت قيمتها، وحتى تصبح حياة المواطن العادى محترمة، ولا تؤدى بصاحبها إلى فقدان احترام الآخرين لمجرد أنه فقد وظيفته.
وقد عملت فى وزارة الأوقاف ومجلس النواب وإدارة الجامعة، ففى الأوقاف كنت التقى المستحقين فى الوقف للعائلات القديمة، وفى مجلس النواب كنت أتابع الصراعات الحزبية، وكنت أرد على مشاكل الناس التى تصل إلى وزير الأوقاف مباشرة أو عن طريق النواب. ولاحظت كم أن الحزبية والمصالح الشخصية تتدخل بشكل سافر يضر بمصالح الناس. أما فى إدارة الجامعة فقد اصطدمت بنماذج بشرية أخرى فبطل «القاهرة الجديدة» عرفته وهو طالب وتتبعته إلى أن حصل على وظيفة ولكن «سقوطه» بدأ وهو طالب.
وبطل «خان الخليلى» كان زميلًا لنا فى إدارة الجامعة واسمه أحمد عاكف وقد جاء يشكرنى بعد قراءته الرواية على محبتى له للدرجة التى جعلتنى أطلق اسمه على بطل الرواية والإبقاء على اسم «أحمد عاكف» كما هو كان تحديًا منى، لأننى أغير فى الشخصية ومصيرها للدرجة التى تجعل صاحب الشخصية لا يعرفها، وشخصية «أحمد عاكف» فى «خان الخليلى» بها الكثير من ملامح الشخصية الحقيقية ولكنه لم يكن يشعر بها، ومن هذه الملامح الأساسية غروره الكاذب، ولأن أحدًا لا يعترف بأن لديه غرورًا كاذبًا فإنى كنت مطمئنًا وأنا أضع اسمه كبطل للرواية من أن الأمر لا يحمل أى خطر.
كان «أحمد عاكف» أعلى منى وظيفيًا، وأذكر أنه تم تكليفه بتأسيس إدارة جامعة الإسكندرية عند إنشائها، وكان أول مدير لجامعة الإسكندرية «جامعة فاروق الأول فى ذلك الوقت» هو الدكتور «طه حسين». وقد كتب «أحمد عاكف» إحدى الرسائل فأدخل عليها الدكتور «طه حسين» بعض التعديل فثار «أحمد عاكف» ودخل وهو نصف مجنون على «طه حسين» مستنكرًا أى تعديل على ما يكتبه، قائلًا له «أنا لا أقل عن أى أحد منكم»، فرد «طه حسين»: «إن هذا شىء يسعدنا جدًا»، واتصل بالقاهرة ونقله فورًا. لم يستمر «أحمد عاكف» فى جامعة الإسكندرية بضعة أيام، وكانت خسارة كبيرة له، وضيع عليه غروره الكاذب وظيفة السكرتير المساعد لإدارة جامعة الإسكندرية التى كانت تعنى حصوله على رتبة البكوية مثل أحمد بك عمر السكرتير المساعد فى الجامعة. هذا هو «أحمد عاكف» الذى خسر الكثير بسبب كبريائه الزائفة عندما رفض تعديل طه حسين لكلمة واحدة فى خطاب له.
كذلك عرفت شخصية تتميز بالانتهازية الذكية وهو «عباس محمود» سكرتير كلية الآداب، وكان حاصلًا على ماجستير آداب فى موضوع يتصل «بدائرة المعارف الإسلامية» وترجم بعض الكتب مثل «التجديد فى الفكر الإسلامى» وقد عينه الشيخ مصطفى عبدالرازق مديرًا لمكتبه.
كما اصطدمت فى الوظيفة بأشياء كثيرة مثل الشذوذ الجنسى بين الموظفين وهو ما أتاح للبعض الحصول على وظائف كبيرة لا لشىء إلا بسبب ممارسته الشذوذ مع أحد كبار الموظفين، وكان شذوذ البعض معروفًا ولا يكاد صاحبه يخفيه، وأذكر أن رئيس لجنة المستخدمين بوزارة الأوقاف قدم لى فى أحد الأيام تهنئة على اختيارى للدرجة الرابعة، حيث إننى أمتاز على منافسى فى الدرجة وأتفوق عليه فى كل شىء، فأنا حاصل على الليسانس وهو حاصل على «الكفاءة» فقط، وأنا «سكرتير برلمانى» وهو «فى موقع وظيفى أقل»، والوزير الشيخ على عبدالرازق يعرف صلتى بشقيقه الشيخ مصطفى عبدالرازق فحصلت على الدرجات النهائية والترقية وانصرفت من العمل وذهبت لأبلغ والدتى بالترقية، كما أبلغت أصدقاء مقهى عرابى، خاصة أننى قبل انصرافى اطلعت على القرار وإمضاء الوزير ثم حدث لى أمر محرج، وهو من أشد المواقف التى صادفتنى فى حياتى حرجًا فى اليوم التالى مباشرة دخلت على زملائى فى مكتب الوزير فوجدتهم فى حالة وجوم، كنت على علاقة صداقة مع رئيس السكرتارية فى مكتب «عبدالسلام فهمى» وهو زوج الفنانة مارى منيب وله صلة قرابة بعبدالحميد باشا بدوى وقد بدأ «عبدالسلام فهمى» حياته ممثلًا فى فرقة عبدالرحمن رشدى، ونشأت الصداقة بيننا بسبب النزعة الفنية لكلينا، وقد رحل عبدالسلام فى مطلع التسعينيات وعاش سنواته الأخيرة حزينًا على وفاة رفيقة عمره «مارى منيب»، وجدت «عبدالسلام» واجمًا وهو يستقبلنى فى مكتب الوزير، وانتحى بى جانبًا وقال لى: «إن هناك شيئًا سيئًا وهو أن ترقيتك للدرجة الرابعة ألغيت»! ذهلت وقلت له: «كيف حدث هذا وقد وقعها الوزير؟!» وحكى لى «عبدالسلام فهمى» أن «عمر باشا» وكيل الوزارة- وهو قريب الوزير- أخذ كشف الترقيات بعد توقيعه من الوزير ومزقه أمام الوزير. وقال له: إن إبراهيم باشا عبدالهادى رئيس الديوان الملكى فى ذلك الوقت أوصى بحصول شخص آخر على الدرجة الرابعة، وأصبح علينا أن نقوم بإعداد كشف جديد بذلك، وكان لإبراهيم عبدالهادى علاقة شخصية خاصة بمنافسى على الدرجة الرابعة هذه.
ونادانى الشيخ على عبدالرازق واعتذر لى ووعدنى بالتعويض فى أقرب فرصة، وقال لى إن ما جرى تم فى ظروف قهرية، وانتابنى الخجل، فماذا أقول لأمى ولأصدقاء مقهى عرابى عن الترقية التى لم أحصل عليها أكثر من ٢٤ ساعة؟ ومن المؤكد أن حرمانى من الترقية خطأ قانونى، فما دام الوزير وقعها فلا يلغيها إلا قرار وزارى آخر، ولم أكن أستطيع أن أتخذ أى إجراء أو شكوى ضد على عبدالرازق، كانت مثل هذه الحادثة من الأشياء المتكررة فى الحكومة، وكان الشاذون جنسيًا فى نعيم حقيقى، وكانوا يجدون دائمًا من يساندهم، وكان الأديب «كامل كيلانى»» يسخر من هؤلاء الشاذين ويقول لى: إذا كان الشذوذ أوصلهم للدرجة الرابعة فإنه لن ينفعهم أكثر من ذلك سيظلون فى الرابعة، وكان كيلانى وهو باحث وفنان ومن ظرفاء تلك الأيام موظفًا معنا فى وزارة الأوقاف ونصحنى ذات يوم بضرورة ألا يعرف أحد أننى أديب وأن أعمل فى صمت حتى إذا سألنى أحد عما إذا كنت أنا الأديب الذى تنشر له الصحف قصصًا، فينبغى أن أنفى ذلك، لقد شرب كامل كيلانى السم لأنه أديب ولم يسلم من التعليقات الحادة ومن الحقد، خاصة إذا جاء وزير يكن احترامًا للأدب فيهيج الجهاز البيروقراطى كله، وإذا منحه الوزير ترقية فإن الموظفين لا يسكتون ويسخرون منه لأنه «كاتب الأطفال» وقد حملوا له كراهية شديدة بسبب منزلته الأدبية، ويزدادون كراهية له بعد أن رأوا كل الوفود العربية القادمة إلى مصر فى مكتبه ومنهم وزراء، ولذلك نصحنى بألا أقول للموظفين فى الوزارة إننى أديب حتى لا أضيف إلى حياتهم هاجسًا جديدًا ينذر بالخطر عليهم، قبلت النصيحة وعملت بها على قدر المستطاع، وتقريبًا عندما تركت العمل فى وزارة الأوقاف لم يكن أحد يعرف أننى أديب سوى «كامل كيلانى» و«عبدالسلام مصطفى فهمى» رئيس السكرتارية وزوج «مارى منيب».