أول الغيث «ثلوثية»
المتابع لما يجرى الآن فى المملكة العربية السعودية من عمليات تحديث لوسائل ونوعية الخطاب الإعلامى والثقافى والفنى، لا بد أن يدرك أن كل هذه الحركة اللاهثة للحاق بسلم التنوير لم تأت من فراغ، ولم تنبت من العدم.. لا بد لها من أرضية تستند إليها، وترتوى منها، وتمد إليها جذورها. فهى نتاج سنوات طوال من الحراك الثقافى، والحوارات والمجادلات والكتابات التنويرية التى ظلت تتوالى بين أروقة المجتمع الثقافى السعودى دون كلل ولا ملل، للبحث عن مصباح يضىء الحياة فى أرض المملكة. ربما لم تكن تجد الصدى المناسب لها فى أزمنة سابقة، ولم يكن يدرى بها العالم الخارجى، لكن أغلب الظن أنه قد حان الوقت لكى يقرأ الجميع عن كواليس ذلك النشاط، وتلك الحركة وما تضمنته من مبادرات ثقافية وتعليمية وسياسية، وأطروحات اجتماعية وفنية، تواصلت على مدى قرون من الزمان.
ذلك بالضبط ما يقوم عليه كتاب «أمسيات الثلوثية.. المثقفون وحكاياتهم» الصادر مؤخرًا عن دار «كنوز»، وما يكتسب أهميته منه، فهو واحد من أوائل الكتب التى تكشف النقاب عن مسيرة طويلة، وشاقة فى طريق التنوير، ومحبة الحياة.. الكتاب من تأليف الأديب والصحفى الدكتور عبدالله مناع، ويروى فيه رحلة واحدة من أهم وأولى الأمسيات الثقافية السعودية، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، وهى التى تتمثل فى أمسيات الثلوثية، أول صالون ثقافى سعودى يتواصل على مدى نصف قرن من الزمان، مع إشارات إلى البدايات المبكرة من جلسات السطوح بأحد منازل حى «المعلاة» بمكة المكرمة، وهى الجلسات التى كان يعقدها الشيخ عبدالله طيب مع عدد من رجالات مكة ووجهائها مساء كل ثلاثاء، يتبادلون فيها الحديث عن شئون المجتمع المكى وقضاياه، وصولًا إلى «ثلوثية الصالون» التى أطلقها نجله المثقف المعروف محمد سعيد طيب، أواخر عام ١٩٧٤ فى جدة، متأسيًا بثلوثية السطوح بمكة، التى كان يتسلل طفلًا لمتابعة أحاديثها وحواراتها مبهورًا.
وتكمن أهمية الكتاب فى رصده، بأسلوب أدبى شيق وممتع، لمراحل تطور الصالون الثقافى الأكبر فى المملكة، بما شهدته أمسياته من حوارات جادة، ومرحة أحيانًا، ونقاشات حادة، وجريئة فى تجاوزها لجميع الخطوط، وطرحها لكل الأسئلة، إلى جانب ما يحتويه من مواقف طريفة وحكايات إنسانية لعبت أدوارًا فى تطور تلك الأمسيات، ومنها مسيرة دخول «الشيشة» إلى أرض الصالون، التى كان صاحب البيت لا يحبها، ولا يطيقها، إلا أنه بعد رحلة طويلة من الشد والجذب، لم يجد أمامه مفرًا من التسليم بدخولها، خصوصًا عندما دفع واحد من أقرب أصدقائه إلى مقر «الثلوثية» بسيارة محملة بعدد من «الشيش» وأكياس الفحم، وتنك من «الجراك»، ومنها ما يرويه الكاتب عن استضافة «الثلوثية» للأمير سلطان بن عبدالعزيز، النائب الثانى لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع «وقتها» باعتبارها الزيارة الأبرز والأهم من عمر «ثلوثية شارع الصحافة» بجدة، وهى الزيارة التى تمت بناء على طلبه، عندما زاره فى مكتبه محمد سعيد طيب أملًا فى تسمع قيادات المملكة لمثقفيها وتتواصل معهم، فما كان من الأمير إلا أن بادر هو بطلب الزيارة قائلًا: «أنتم بخلاء يا أهل جدة.. أما فى الرياض فأنا معزوم على العشاء فى كل يوم عند أحد الإخوان، وبالرغم من كثرة أصحابى هنا»، ليبادر الطيب «إحنا فيها يا طويل العمر».
حدد الأمير موعد الزيارة، وقائمة المدعوين، وامتلأت نفوس رواد الأمسية أملًا فى حديث صريح فى شئون الحياة فى المملكة، لكنه حين وصل، أخذ يلاطف هذا ويمازح هذا، لتبدأ الأحاديث المعتادة حول الطقس والأمطار واحتمالات سقوطها، مع قفشة من هنا وتعليق ضاحك من هناك، ليبدأ الأمير فى سرد رواية عن إحدى غزوات الصحراء، التى حدثت فى عهد أبيه المؤسس أو قبلها، لتستحوذ على اهتمام الحاضرين، دون أن يفهم أحد منها شيئًا، لكن القصة استمرت حتى منتصف الليل، لتنتهى الأمسية التى انتظرها الجميع على أحر من الجمر، دون أن تقال فيها كلمة واحدة عن «الإصلاح» ومطالبه، وليتلاوم الحضور بعدها على تقاعسهم حتى عن الإشارة لتلك المطالب، ويفوز الأمير بالإفلات من مصيدة حوارات «ثلوثية الصحافة» ومناقشاتها الجادة والعميقة، التى جعلتها عنصر جذب وريادة حقيقية فى دنيا الملتقيات الثقافية، ومجتمع «صالونات التنوير» الأدبية فى جدة، ولتحذو حذوها صالونات أخرى، تختلف فى موعدها وبعض محتواها، لكنها تتفق فى المجمل فى حتمية التغيير الاجتماعى والثقافى والمعرفى، وفى حتمية اللحاق بسلم الحضارة والتنوير.