حنين حسام.. «تسليع» الحرية
تسليع الشىء هو تحويله إلى سلعة تُشترى بالمال.. والملاحظة التى أكدتها لى قضية البلوجر حنين حسام أن قيمًا كثيرة فى حياة المصريين تحولت من قيم ومعانٍ إنسانية إلى سلع تُشترى بالمال.. أستطيع أن أقول إن هذا بدأ يظهر بعنف خلال العشرين عامًا الأخيرة، ومع التحولات الاقتصادية والاجتماعية الحادة، وانسحاب الدولة من وظائفها بعد السنوات العشر الأولى من حكم الرئيس الأسبق مبارك.
كان أبرز الظواهر فى هذا السياق ظاهرة الدعاة الجدد، الذين بدأوا فى تحويل الدين من رسالة إلى سلعة.. قبل ظهور هذا النوع من الدعاة كان الدعاة وعلماء الدين أقرب ما يكونون إلى أصحاب الرسالات، التى تهدف لتحقيق قيم سامية، وهم فى هذا يقتدون بـ«الرسول»، صلى الله عليه وسلم.. وهو لفظ مشتق من الرسالة كما نرى، وقبل ظهور الدعاة الجدد كان يمكن أن تجد عالمًا أزهريًا كبيرًا، مثل الشيخ عطية صقر يركب الأتوبيس العام، ويكتفى براتبه كعالم فى الأزهر؛ لأنه يعتقد أنه لا يجب أن يبيع العلم الذى وهبه الله له، وأنه سيجازَى عن علمه فى الآخرة لا فى الدنيا، لكن هذا المعنى اختفى مع الدعاة الجدد، الذين حولوا الدين لسلعة وتسابقوا فى تكوين الثروات من خلال ممارسات مختلفة، مثل الحصول على عطايا الأغنياء المباشرة، أو العمل كمستشارين للقنوات الدينية، أو الشراكة مع القنوات فى البرامج التى تقدمها وجنى مكاسب مالية ضخمة، أو الخروج كمرشدين دينيين مع رحلات الحج السياحى الفاخر، أو العمل مخدمين وقراء طالع وباعة صكوك الغفران لبعض رجال الأعمال، ممَن يدّعون التدين لإخفاء لصوصيتهم وتهربهم من الضرائب.. هكذا تحول الدين إلى سلعة.. فى نفس الوقت تقريبًا ومنذ عام ٢٠٠٠ بدأ الأدب يتحول إلى سلعة، بعد أن كان الجميع يتوافقون على أنه وسيلة لتغيير العالم.. كان الأدباء حتى جيل السبعينيات يعتقدون أنهم يكتبون ليغيروا العالم والمجتمع، أما جيلا الثمانينيات والتسعينيات فراوحا بين فكرة تغيير العالم والتعبير عن الآلام والهموم التى تشعر بها الذات فى صراعها مع المجتمع.. فى كل الأحوال لم يكن الهدف من الكتابة هو تكوين ثروة أو تحويل الأدب إلى سلعة.. بل إن بعض الأدباء كانوا يُضارون ويُضطهدون بسبب كتاباتهم، وكانوا يتحملون هذا بنفس راضية.. مع القرن الجديد ظهر كتاب «البست سيلر» وأصبح من الطبيعى أن يجلس الكاتب ليخطط لرواية تحقق مبيعات بالملايين وتجعله ثريًا.. ظهر نجوم فى هذا المجال أسماؤهم معروفة.
الأمر نفسه يتكرر الآن فى قضية حنين حسام.. ولعل هذا سبب الارتباك لدى من يعتبرون أنفسهم مدافعين عن الحرية.. لكن هذه ليست حرية مطلقة كى ندافع عنها كقيمة إنسانية، هذه حرية تحولت إلى سلعة تُباع فى سوق يمكن تسميتها سوق النخاسة الإلكترونية.. هناك فرق بين أن تمارس فتاة حريتها فى الرقص «هى موهوبة جدًا» وبين أن تحصل على وكالة من أحد مواقع المواعدة.. وتُحرض الفتيات الصغيرات على أن يتحولن لمذيعات فى غرف الدردشة الخاصة مقابل أموال يحصلن عليها ممن تسميهم «الداعمين».. لماذا سيدعم هؤلاء الفتيات؟ وفى مقابل أى شىء؟.. لقد راجعتُ الفيديو الذى تسبب فى القضية.. وقد كانت حريصة على التأكيد على الفتيات بالالتزام بالملابس اللائقة.. إلخ، وهو ما ذكَّرنى بنكتة عن صاحبة بيت مشبوه تطلب من العاملات معها أن يلتزمن بآداب المهنة.. هى لغة فتاة مدربة لا تريد أن يكون عليها مأخذ قانونى.. نحن هنا أيضًا إزاء حالة تحويل قيمة إنسانية، هى الحرية، إلى سلعة، وأنا أدافع عن الحرية كقيمة عامة، ولكنى لا يمكن أن أدافع عن تحويلها إلى سلعة يشتريها مَن يدفع.. تمامًا كما أدافع عن جسد الإنسان كقيمة، لكنى أحتقر من تبيع جسدها مقابل المال.. حنين حسام فتاة مارست حريتها.. لكنها وجدت من يعرض عليها أن تحول حريتها لسلعة فانحرفت ووافقت، وبالتالى ينطبق عليها ما ينطبق على غيرها.. أما كيفية التعامل مع جريمتها فهذا شأن آخر نتحدث عنه فيما بعد.