صور الطفولة في حياتهم| أسامة علام.. خمسة مشاهد لطفولة متمني قلق
عن صورة الطفولة في حياتهم، والسنوات الأولى، عن الجنة والجحيم، عن التطرف الجميل في اللعب مع الوقت، عن ما وراء الصورة من حكايات، تحدث الكثير من الأدباء لـ«الدستور» عن هذه الفترة.
قسم الكاتب الروائي والطبيب أسامة علام فترة طفولته إلى 5 مشاهد مازالت عالقة بجدران الروح لا تغيب ولا تنسي بمرور الزمن.
المشهد الأول
يقول أسامة علام "كنا أكثر من خمسة عشر طفلا مكدسين في السيارة الشيفروليه العتيقة. لا أعلم حكمة إرسالي من مدينتنا الصغيرة إلى المنصورة، لالتحق بمدرسة خاصة اسمها "العناية الإلهية ". محشورا وسط أطفال أكبر منى سنا، أتنقل ببصرى بين صلعة السائق العجوز والزراعات الممتدة عبر الطريق. نحيف جدا وخائف من مجهول أيام الحضانة. أملى الوحيد هو أن يصدق أصدقائي الأكبر، ويشتروا لي ثمرة دوم. أبتلع قشرتها الصلبة مع اللحاء الرطب حتى أصبح كالكبار الذين لا يذهبون للحضانة. عام كامل يمر وأنا لا أمارس سوى الصمت والتقليد ومحاولات كتم الدموع. يدهشني رداء أبونا برنابه، قس المدرسة الشاب، بملامح وجهه المنحوتة كتماثيل قديسي الكنيسة. ويطربني صوت عبد الباسط عبد الصمد في رحلتنا كل صباح. فأتمايل مقلدا نشوة السائق العجوز مرددا آيات الذكر الحكيم. وأتمنى أن أكبر فأصبح سائقا مثله، أشترى للأطفال دوم بلا قشرة صلبة لا طعم لها"
المشهد الثاني
ويتابع علام "اليوم الأول لي بمدرسة راشد بن النظر الابتدائية بقرية سداب العُمانية. أرتدى الدشاشة فيقتلنى الخجل، كونى سأذهب للمدرسة بجلباب. وعندما يرن جرس انتهاء اليوم الدراسي، أكون الأول في انتظار الحافلة المدرسية تحت الشمس الحارقة. منتظرا مكافأتي بالجلوس بجوار الشباك. أنظر إلى أمواج الخليج العربى والصيادين والمراكب. وعبر الرحلة اليومية اكتشف بأن الخليج واسع جدا. وبأن أسماك القرش الملقاة على الشاطئ مسكينة للغاية رغم منظرها المخيف. وبأن أمنيتى هي أن أصبح صيادا، كهؤلاء الأصدقاء الذين أصبحت أحفظ ملامح وجوههم السمراء. منتظرا أن يبتسموا لى كزميل منتظر.
المشهد الثالث
يلفت علام إلى أن "هناك مكان وحيد يمكنى الدخول عبره الى جنة الأطفال، تماما كأليس فى بلاد العجائب. أسفل مكتب والدى، فى ذلك التجويف الصغير المصنوع لأقدامه والكرسى الكبير. يحتوينى الكهف الصغير بحميمية وبراح. فلا ينقصنى سوى أن أغمض جفوني كي أقابل كل الأصدقاء. حوريات وتنانين وملوك وأقزام. يفتحوا لى عوالم أساطيرهم ويحكون لى. وفى الحكاية، أصبح صديق خيال الظل وعرائس البحور. أختلق الحكايات وأدمن الكذب فأكون بونكيو الذى لا يخشى من طول أنفه أبدا. لأنى أعلم بأنه عندما ستجدنى أمى نائما، ستحتضنى وتطبع قبلة على خدى. بعد أن تضعنى على سريرى وتمر بكفها على جسدى الصغير مرددة تعويذتها الفاتنة. "من شرالناس ومن شر الوسواس الخناس ومن شرعين كل اللى شافك ولاصلاش على النبى".
المشهد الرابع
ويتابع علام "لم أكن أنا المسافر هذه المرة. كانت سلمى وكنا فى الفصل السادس الابتدائى. سلمى نحيفة ورقيقة جدا كورقة شجر. أتت قبل نهاية العام الدراسى بشهور من الكويت. كنت أعلم ما ينتاب الأطفال القادمين الى مصر بعد طول غياب مثلى. أراقبها منزوية وحيدة وسط ضجيج حوش المدرسة وصخب بهجة الفسحة. خائفة من التلاشى بفعل الهواء الذى تحركه شقاوة الأطفال. تفتح لفة السندويتش بحظر وتحتفظ بالورقة فى جيب مريلتها الزرقاء الكاروهات. تقضم من الرغيف وتنتظر شيئا ظل مجهولا لى. لم أكلمها يوما ولم تفطن هى أبدا لوجودى. وفى أول أيام امتحانات نهاية العام لم تحضر سلمى. لكنى لمحتها تجلس وحيدة بحجرة الأساتذة. يغطى جلدها الرقيق بقع الحصبة الحمراء. فتمنيت أن أصبح يوما ما طبيبا. ربما أستطيع أن ألمس وجهها وأثبت لنفسى قدرتها الأكيدة على التلاشى.
مشهد خامس لا يحمل كلمة النهاية بعد
ويختتم علام مشاهداته "أنا أربعينى أجلس وحيدا بالمقهى فى بلاد غربتى البعيدة. تتساقط نتف ثلوج مونتريال عبر زجاج النافذة، فيصمت ضجيج الشارع بسلام لا يصنعه سوى شتاء البلاد الباردة. ومن أحد أركان المكان أشاهده يتلصص على بدهشة واستغراب. أسامة/ الطفل الذى اعتقدت أنه مازال يعيش هناك وحيدا بالمنصورة. يدعونى للخروج كى نقفز فى برك الماء الصغيرة. أسمع صوته المنتشى "يامطرة رخى رخى...على قرعة بنت أختى" . فيرد عليه مظفر النواب فى رأسى "المشرب غص بجيل لا تعرفه...بلد لا تعرفه...لغة... كركرة لاتعرفها". وبين مراودة الطفل الشهية ونواح الشيخ الشيخ، أغمض عينى وأحلم بكل أساطير طفولتى البعيدة التى لم أكتب عنها بعد.