وائل لطفي يكتب: جمهورية الإصلاح
تكتسب الكلمات قيمتها من المعانى الكامنة وراءها، ومنذ سنوات لم يكن مصطلح مثل «تراخيص البناء» يعنى شيئًا، سوى إجراءات روتينية وتوقيعات وأحاديث مبهمة عن فساد المحليات، الذى وصفه مسئول كبير منذ عشرين عامًا بأنه «للرُّكب»، أى أنه منتشر بدرجة لا يمكن تجاهلها.. وكانت نتيجة هذه المنظومة الفاسدة ملايين العمارات، التى تمثل رموزًا للقبح المعمارى والعشوائية وانعدام شروط السلامة.. والتهام الأراضى الزراعية لحساب عمارات أسمنتية تنتصب على الأرض مثل «الخوازيق»، وكأنها نصب معمارية للقبح والفساد والاحتياج وعدم التخطيط، وتضاعف الأمر فى سنوات الفوضى التى أعقبت يناير ٢٠١١، وأخذ الناس بالقوة ما كانت الدولة قبل ٢٠١١ تتركه لهم على سبيل الرشوة الانتخابية وتسكين الأوضاع. لقد خلق كل ذلك واقعًا عشوائيًا، قبيحًا، يستفيد منه الآلاف من تجار البناء وحيتان الأراضى وتجار العشوائية وبعض الفاسدين فى الإدارات المحلية.. إن معرفة الماضى هى أفضل طريق لفهم الحاضر، وقد استدعيت هذا الماضى وأنا أقرأ خبر بدء الدولة فى تنفيذ منظومة التراخيص الجديدة فى ٢٧ مركزًا ومدينة على سبيل التجربة. إن ما لفت نظرى فى الخبر هو أن المنظومة الجديدة تقطع أيدى الفساد والفاسدين، وتنزع سلطتهم التى أنتجت كل هذا القبح، فطلبات البناء ستقدم فى مراكز مستقلة عن إدارات الأحياء هى مراكز التكنولوجيا، وستحول تلقائيًا إلى الجامعات المختلفة، وهى جهات علمية أكاديمية تدرس المعايير الهندسية والجمالية للبناء المقترح، وترد على مركز التكنولوجيا الذى يعطى الموافقة أو الرفض، بناء على تقرير الخبراء الجامعيين. لقد اختفى دور مهندس الحى الشهير، وظهر بدلًا منه أستاذ جامعى لا يعرف المواطن طالب الترخيص ولا يعرفه المواطن، أما المراكز الوسيطة فهى تعمل بشكل تكنولوجى يقل فيه العامل البشرى، وإن كنت أوقن أنها هى أيضًا ستخضع لرقابة الدولة التى جعلت محاربة الفساد أحد أهدافها الرئيسية. ينص قانون التراخيص الجديد أيضًا على ضرورة وجود جراج فى كل وحدة سكنية، وهو شرط معمول به فى كل دول العالم، وكان موجودًا فى كل تراخيص بناء المناطق الجديدة فى مصر، مثل مدينة نصر والسادس من أكتوبر وغيرهما، لكن التغاضى عنه بالفساد أدى إلى تحويل جراجات العمارات إلى شقق سكنية وبوتيكات ومخازن، وهو ما أدى إلى أن تتحول إلى عبء إضافى على المناطق السكنية وعلى طاقة الشوارع من السيارات والخدمات لا متنفس لها كما كان مقصودًا من البداية. لقد قادنى خبر مثل منظومة تراخيص البناء الجديدة إلى التفكير فى معنى كبير تحدث عنه الرئيس السيسى وهو «الجمهورية الثانية»، وأعترف بأننى لم أفهم معنى الجمهورية الثانية، خاصة أنه لا معادل نظريًا يشرحها، لكننى توصلت للمعنى وأنا أقرأ خبرًا يبدو بسيطًا، مثل بدء تطبيق منظومة البناء الجديدة، إن الجمهورية الثانية هى التى تصلح أوضاعًا خاطئة ترسخت فى عهد الجمهورية الأولى.
إنها جمهورية الإصلاح، وهو أكثر ما تحتاجه الدولة المصرية؛ كى تسترد عافيتها وتحتل مكانها بين الأمم.