نحن والإسلام وفرنسا
فى ١٧ أكتوبر الماضى، قام شيشانى مسلم بذبح معلم فرنسى يدعى صامويل باتى، لأنه أظهر لتلاميذه رسمًا مسيئًا للإسلام، وبعد أقل من أسبوعين قام شاب آخر تونسى مسلم، فى ٢٩ أكتوبر، بقتل ثلاثة أشخاص فى هجوم بالسكين قرب كنيسة نوتردام بمدينة نيس الفرنسية.
وقد أثارت الحادثتان هائجة فرنسا والغرب كله، بدءًا من الرئيس الأمريكى ترامب، الذى صرح بقوله: «قلوبنا مع شعب فرنسا.. لا بد لهذه الهجمات الإرهابية الإسلامية المتطرفة أن تتوقف»، ثم بريطانيا التى أعلنت عن تضامنها مع فرنسا، وألمانيا التى صرحت بأنها «تقف بقوة إلى جانب فرنسا»، والقادة السبعة والعشرين للاتحاد الأوروربى، وأمين عام الأمم المتحدة، وانتهاءً بأمين عام حلف شمال الأطلسى الذى أعلن عن «تضامنه العسكرى».
أما فى فرنسا، حيث يعيش ستة ملايين مسلم ويشكلون أكبر جالية مسلمة فى أوروبا، فقد كانت ردود الأفعال أشد وأعنف، وانضوت كلها تحت شعارات من نوع «الهجوم الإسلامى الفاشى»، ووقف البرلمان دقيقة حدادًا على أرواح الضحايا، كما تعهد الرئيس ماكرون بقمع التطرف الإسلامى فى بلاده، بما فى ذلك إغلاق مساجد وحظر منظمات متهمة بالتحريض على التطرف.
لكن لا ماكرون ولا أحد من قادة الغرب راح يجأر بشأن الإرهاب المسيحى عندما تعرضت سيدتان مسلمتان للطعن فى ٢١ أكتوبر الماضى تحت برج إيفل، وكانت المشتبه بها تصيح: «العرب القذرون»، ولا فتح أحد فمه من قبل بشأن سبع عشرة عملية عسكرية قامت بها أمريكا فى الشرق الأوسط ما بين ١٩٨٠ و١٩٩٥، واستهدفت كلها المسلمين، وهو رقم لم يسجله التاريخ العسكرى الأمريكى ضد أى شعب من أى حضارة أخرى.
ذلك أن الغرب الاستعمارى يعلم علم اليقين أنه ما من دين إرهابى بطبيعته، لا المسيحية ولا الإسلام، لكن الغرب بحاجة إلى غطاء فكرى لمواصلة الهيمنة على شعوب العالم الثالث، وقد كان ذلك الغطاء ما بعد الحرب العالمية الثانية هو «الشيوعية الشمولية»، فى قت لم يكن الإسلام إرهابيًا قط، وذلك عندما وضعته المخابرات الأمريكية قناعًا لردع السوفيت فى أفغانستان سنوات طويلة، لكن الغرب عندما انهار الاتحاد السوفيتى أصبح بحاجة لقناع جديد لمواصلة هيمنته على ثروات الشعوب، مما دفع السكرتير العام لحلف الأطلسى للقول عام ١٩٥٥ إن: «الإسلام السياسى لا يقل خطورة على الغرب من الشيوعية».
هكذا يحتاج ماكرون وغيره للحديث عن الإرهاب الإسلامى، خاصة أن فرنسا تمر بأزمات اقتصادية واجتماعية من بطالة وإفلاس وقمع للحريات، تجلى واضحًا مع أصحاب السترات الصفراء، هكذا تدخل مقولة «الإرهاب الإسلامى» فى سوق تداول الأقنعة السياسية لعمليات النهب المنظم والهيمنة الاقتصادية.
على صعيد آخر فقد أشار بيان الأزهر الشريف، مخاطبًا ماكرون والغرب بشأن ما جرى، إلى أن سبب الأزمة الحقيقى هو: «ازدواجيتكم الفكرية»، وتناسى البيان أننا نعانى من «الازدواجية» ذاتها، لأننا قلما سمعنا صوت الأزهر الشريف بشأن الانتهاكات التى وقعت وتقع ضد الأقباط، كما لم نسمع هذا الصوت عندما مزق أحدهم الإنجيل فى القاهرة أمام السفارة الأمريكية.. هى ذات الازدواجية الفكرية.
بطبيعة الحال فإن أحدًا لا يمكن أن يدافع عن القتل والطعن وبربرية الكهوف الحجرية، وما من شىء يبرر ذلك، سواء أكان رسومًا أو حوارًا أو مقالًا، لأنك لا تدافع عن الإسلام عندما تقتل الآخرين، بل أنت تهاجم الإسلام بتشويه صورته ورسالته، ويظل من غير المفهوم أن يهاجر البعض من بلده المسلم إلى بلد غير إسلامى، ليلقن الناس هناك، بالسكين والقنابل، أصول الدين الذى جاء «رحمة بالعالمين»!، وكما تستحيل المفاضلة بين فردتى حذاء، فإن أحدًا لا يمكنه أن يفاضل بين موقفين هما: الإرهاب والاستخدام السياسى للإرهاب.
ويظل العامل الحاسم فى موقف الدول الغربية هو حاجتها لقناع فكرى تبرر به هيمنتها الاستعمارية على اقتصاديات شعوب العالم الثالث، بينما يؤدى تراجع التنمية المستقلة فى العالم الثالث وتدهور مستوى المعيشة إلى التشوهات الفكرية، التى لا تجد مخرجًا لامعًا سوى حد السكين. إن الهيمنة الاقتصادية للغرب والفقر الناجم عنها وجهان لعملة واحدة: غياب فكرة وهدف وسياسة العدالة الاجتماعية، ذلك لأن تحقيق العدالة الاجتماعية ينحى جانبًا استغلال الشعوب الأخرى، ويفسح المجال فى العالم الثالث لتعم ثمار التطور على الجميع.