أدونيس.. مدافع التطبيع
لم يخطر لى أن يرد الشاعر أدونيس على مقال لى فى كتابه «المحيط الأسود»، لكنى وجدته يكتب فيقول: «آخر ما قرأته فى هذا الصدد مقالة كتبها الكاتب المصرى أحمد الخميسى يحملنى فيها وحدى مسئولية عدم انعقاد المؤتمر الخاص بالهولوكوست الذى قيل إنه كان سيعقد فى بيروت، ويجرمنى تبعًا لذلك، وحدى طبعًا، ويقول الخميسى: لا يحتاج تعليقًا موقف أدونيس الذى نال كل الرضا والعطف من سفير إسرائيل فى باريس نفسها، وهو شرف لا يفوز به إلا كبار الشعراء وبشق الأنفس (أخبار الأدب ٢٠٠١)».
ويمضى أدونيس قائلًا: «نعم هكذا وحدى، إضافة إلى أن هذا القول كاذب ومختلق كليًا. ويعرف الذين تابعوا القضية أن هذا الشرف شاركنى فيه آخرون، فلماذا لم يشر هذا الكاتب إلى الآخرين؟ أو إلى واحد بينهم على الأقل؟ أو لعله لا يتجرأ لسبب أو لآخر أن يشير إلى اسم محمود درويش أو إدوار سعيد، أو لعله يحب التحريف لوجه الله! فوقع سخط هذا التحريف علىّ وحدى!».
ولولا موجة التطبيع الثقافى التى اندلعت من جديد مؤخرًا لما فكرت فيما كتبه أدونيس الذى يقترب من التسعين من عمره، وما زال يسعى للفوز بجائزة نوبل بكل الطرق. وبداية سنلحظ فى حديث أدونيس أنه لا ينكر احتفال السفير الإسرائيلى به، إنه فقط يريد أن يضيف اسمًا مثل محمود درويش الذى لم يأت أحد على ذكره حينذاك، لعله بذلك يموّه على مواقفه الكثيرة العديدة التى انطلقت نارها من مدافع التطبيع مع إسرائيل، حتى إن اتحاد الكتاب العرب قام بطرده من عضويته عام ١٩٩٥، بسبب مشاركته فى مؤتمر غرناطة بإسبانيا عام ١٩٩٣ مع صهاينة إسرائيل وإلقائه كلمة تستشرف آفاق السلام الثقافى بأى ثمن، ولو كان غض النظر عن المذابح الإسرائيلية وتاريخ الكيان الإجرامى فى الوجدان العربى. ويطرح أدونيس فى حوار معه عام ٢٠١٢ بصحيفة الجارديان البريطانية تصوره للصراع الفلسطينى الإسرائيلى فيقول: «لا أرى حلًا للقضية الفلسطينية فى المستقبل القريب.. فقصة الفلسطينيين مأساة بلا حل»! هكذا يتفضل أدونيس بالقول إنها مأساة، لكنه لا يحدد موقفه من تلك المأساة، وعلى العكس يرى أنها بلا حل، أى أنه يقول فعليًا: علينا أن نقبل بالأمر الواقع. وقد كان التطبيع وما زال مرفوضًا فى كل وثائق الهيئات الثقافية والشعبية المصرية والعربية، وأذكر بهذا الصدد أن اتحاد الكتاب المصرى برئاسة فاروق خورشيد قام بفصل الكاتب على سالم من عضويته بعد زيارة الأخير لإسرائيل فى ٧ أبريل ١٩٩٤، وأصدر الاتحاد بيانًا جاء فيه: «إن على سالم لا يمثل سوى نفسه»، بينما برر سالم الزيارة التى قام بها بسيارته من العريش إلى رفح ومنها لإسرائيل بضرورة التعرف إلى «الآخر»! وكافأت جامعة بن جوريون سالم بمنحه الدكتوراه الفخرية. أما الرسام جورج البهجورى فلم يحصل من زيارته لإسرائيل فى يوليو ٢٠٠٨ على أى شىء ولا حتى شهادة تقدير فى الرسم. ولا يمثل أدونيس حالة فردية فى مجال التطبيع الثقافى، فقد انضم إليه الشاعر اللبنانى سعيد عقل مؤلف أغنية فيروز الوطنية «زهرة المدائن» وحين اجتاحت إسرائيل لبنان عام ١٩٨٢ كتب عقل يشكر القوات الإسرائيلية على ما قامت به، مؤكدًا أنه كان ليقاتل إلى جانبها لو أسعفته الظروف. أما المخرج اللبنانى زياد دويرى فقد بقى فى تل أبيب عام ٢٠١٠ حوالى العام لتصوير فيلمه «الصدمة»، وبرر ذلك بأن الأمر يتطلب «عرض الروايتين»، أى الإنصات إلى صوت الاحتلال وتفهمه بنفس القدر الذى ننصت به إلى صوت الشعب الذى احتلوا أرضه. وهنا أتذكر قول كافكا: «الأدب يعنى أن تهجر معسكر القتلة»، لا أن تصبح من رصاصهم الموجه إلى الوعى بالقضية الوطنية. وطالما قال التاريخ كلمته فى أولئك فبدل اسم المملوك الخائن خائر بك إلى «خائن بك»، وظل يلاحق بالعار الهلباوى محامى الإنجليز فى دنشواى وغيره.
وفى النهاية فإن كل كاتب يختار موقعه ومكانه، ليس سعيًا وراء جائزة نوبل أو غيرها، لكن سعيًا وراء الحقيقة.