الشراكة الاستراتيجية «الصين وإيران».. نقلة كبيرة فى الحرب الباردة
فى ظل أجواء الحرب الباردة ما بين الولايات المتحدة والصين، وتحت وطأة سلاح العقوبات الذى تشهره واشنطن فى وجه العديد من الدول، حيث تأتى الصين وإيران فى مقدمة ما تصنفه الولايات المتحدة فى خانة الدول المعادية- تمكنت الأخيرة من فرض حصار من نوع ما على كل من الدولتين، بصور ومستويات متفاوتة بالطبع، لكنها عبر استخدام نفوذها الدولى وما تمتلكه من كروت ضغط سياسى واقتصادى وتجارى كبير، مع العديد من الشركاء الدوليين استطاعت أيضًا أن تحكم شكلًا من أشكال الوضع الاستثنائى المقيد، على بكين وطهران فى تعاملهما مع العالم الخارجى.
لكن ربما ما غاب عن الخطوات الأمريكية فى هذا الاتجاه أن هناك علاقات قديمة ووثيقة بين كلتا الدولتين تسبق هذا الفصل الأخير من الضغط الأمريكى، الذى بدا وكأنه يتعامل مع ملف كل دولة منهما على حدة، دون أن يضع احتمالات تطور هذا التقارب المنطقى أمام ما يواجهانه على ساحات صراع متنوعة.
لذلك وفى هدوء تام، وبخطوات تمهيدية مكثفة لم يجر الإعلان عنها من كلتا الدولتين، توصلت الصين إلى صياغة اتفاقية شاملة مع إيران وقعت فى «١٨ صفحة»، تحت مسمى الشراكة الاقتصادية والأمنية، وهو ما يمهد الطريق لمليارات الدولارات من الاستثمارات الصينية المتنوعة داخل إيران.
خطوط الاستثمار العريضة تتحدث عن تعزيز الوجود الصينى فى قطاعات البنوك والاتصالات والموانئ والسكك الحديدية وعشرات المشاريع الأخرى الإيرانية، كما ستحصل بكين فى مقابل ذلك على إمدادات منتظمة بـ«أسعار مخفضة» وتفضيلية من النفط الإيرانى على مدى السنوات الـ٢٥ المقبلة.
وعلى الصعيد الأمنى اشتملت الوثيقة على تعميق التعاون العسكرى بين الدولتين، ما يمنح الصين موطئ قدم متقدمًا وبارزًا فى منطقة ظلت تشغل بال الولايات المتحدة استراتيجيًا منذ عقود، كما يشمل التعاون نشاط التدريبات والتمارين العسكرية المشتركة، فضلًا عن تطوير الأسلحة وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
وبدا فى الداخل الصينى شعور كبير بالإنجاز، خاصة أن هذه الاتفاقية الشاملة كان قد اقترحها الرئيس الصينى «شى جين بينج» لأول مرة خلال زيارته لإيران عام ٢٠١٦، بغرض توسيع نفوذ بكين الاقتصادى والاستراتيجى عبر أوراسيا من خلال «مبادرة الحزام والطريق». حينها لم تكن أجواء الحرب الباردة أو الإشكاليات مع الولايات المتحدة قد تعمقت على هذا النحو الذى وصلت إليه الآن، لهذا سعت بكين لاستعادة المقترح وصياغته على هذا النحو الشامل، الكفيل بنقل إيران إلى منطقة أكثر رحابة مما تسعى واشنطن لـ«حشرها» فيه مؤخرًا منذ انسحابها من اتفاقية البرنامج النووى.
الاستثمارات الصينية الواردة بالوثيقة الجديدة، تبلغ «٤٠٠ مليار دولار» على مدى ٢٥ عامًا، تتعهد فيها بكين بالدخول على أهم القطاعات التى ترى أن إيران فى أمس الحاجة إليها، منها المطارات والسكك الحديد عالية السرعة وشبكات مترو الأنفاق.
كما تتضمن الاتفاقية أيضًا مقترحًا متكاملًا من الصين لبناء البنية التحتية لشبكة اتصالات «G5»، وتزويد إيران بنظام تحديد المواقع العالمى الصينى الجديد «Beidou»، ومساعدة السلطات الإيرانية على فرض سيطرة أكبر على الفضاء الإلكترونى، الذى توليه طهران أهمية بالغة وقطعت فيه أشواطًا متقدمة بمساعدة الصين قبلًا.
وسيشمل الاستثمار الجديد قيام الصين بتطوير مناطق للتجارة الحرة فى «ماكو» شمال غرب إيران وأيضًا فى «جزيرة قشم». هذه الأنشطة الضخمة تنظر إليها طهران؛ باعتبارها شريان حياة جديدًا بالنظر إلى الخيارات الاقتصادية المحدودة للبلاد، والعملة التى تنخفض قيمتها بشكل متسارع، فضلًا عن الاحتمالات الضعيفة لرفع العقوبات الأمريكية مستقبلًا، على ضوء ذلك جاء تصريح «على آغا محمدى» كبير المستشارين الاقتصاديين للمرشد الأعلى «على خامنئى»، وهو يروج للاتفاقية التى تحظى بدعم المرشد أن «إيران بحاجة إلى زيادة إنتاجها النفطى إلى ٨.٥ مليون برميل على الأقل فى اليوم لكى تبقى لاعبًا فى سوق الطاقة، ولهذا فهى بحاجة ماسة وملحة إلى الصين».
على جانب آخر من المشهد، وسط ترحيب كامل وجاهزية صينية، هناك بالداخل الإيرانى من ينظر للاتفاقية الشاملة تلك، باعتبار أن النظام الحالى بطهران «يبيع» البلاد سرًا للصين فى لحظة ضعف اقتصادى وعزلة دولية، للحد الذى دفع الرئيس السابق محمود أحمدى نجاد، أحد الصقور السياسية البارزة، لأن يصف الاتفاقية فى أحد خطاباته مؤخرًا بـ«الاتفاق السرى المريب» الذى لن يوافق عليه الشعب الإيرانى أبدًا. فأصحاب هذا التوجه المعارض أكثر ما يثير قلقهم هو اشتمال الاتفاقية على مقترحات تفصيلية لإنشاء الموانئ، بما فى ذلك اثنان على طول ساحل «بحر عمان»، أحدهما فى «جاسك» خارج مضيق هرمز مباشرة فى مدخل الخليج العربى، ما سيعطى الصينيين نقطة استراتيجية على الممر الملاحى الذى يمر به معظم إنتاج النفط. ورغم ورود الموانئ فى الاتفاقية باعتبارها ذات طبيعة تجارية ظاهرية، لكن يظل إنشاؤها وإدارتها من قبل الصين يجعل احتمالية الاستفادة من قيمتها العسكرية واردة أيضًا، مما يسمح للبحرية الصينية سريعة النمو بتوسيع نطاق وصولها إلى تلك النقاط الاستراتيجية، تحت أى ذريعة أو فى خضم توتر وتصعيد محتمل مع الولايات المتحدة الحارسة التاريخية لتلك المنطقة.
واشنطن بالطبع داهمها هذا الوصول المفاجئ للاتفاقية، ويبدو أنها اطلعت على «الوثيقة» بطريقة أو بأخرى، لذلك هى تنظر بالأخص على توسيع المساعدة العسكرية الصينية والتدريب وتبادل المعلومات الاستخبارية بين البلدين، بقلق شديد، ربما أربك الحسابات فى فترة ترى فيه الولايات المتحدة أن اتفاقية من هذا النوع قد تدفعها إلى مواصلة فرض المزيد من العقوبات على الشركات الصينية التى تساعد إيران «أكبر دولة راعية للإرهاب فى العالم»، حسب التسمية الأمريكية لها، لكنها تقف بترقب لترى ما إذا كانت هذه الاتفاقية ستتم صياغتها باعتبارها «وثيقة تعاون»، أم اتفاقية بين البلدين تتطلب موافقة برلمان كلتا الدولتين، مع العلم أن الوثيقة قد جرى تدوينها بمعرفة «أمانة الآلية العليا للشراكة الشاملة والاستراتيجية» بين إيران والصين، مما يجعل الصيغة التى سيجرى اعتمادها بها ليست ذات أهمية، فالأهم أن الجهة الأعلى فى آلية الشراكة هى من سطرت بنودها، فضلًا عن تمتعها بدعم هائل تمثل فيما بدا أن الرئيس الصينى والمرشد الأعلى يقفان وراءها بقوة، بسبب استشعارهما بالضيق الاستراتيجى الذى يواجهانه فى وقت تنقلهما اتفاقية من هذا النوع، إلى رحابة مكاسب كبيرة ومؤثرة تمكنهما من إدارة الصراع مع الولايات المتحدة من أوزان استراتيجية مختلفة تمامًا، وهو الأهم لكلتيهما الآن.