المسافة من التحرش إلى الإعدام
التحرش محطة أولى على طريق يرى المرأة بصفتها موضوعًا جنسيًا لا أكثر.. التحرش باللفظ البذىء والملامسة، أما المحطة الأخيرة على الطريق نفسه فقد تكون إعدام المرأة لكونها موضوعًا جنسيًا يجلب العار، ومن التحرش إلى القتل تكمن النظرة إلى المرأة باعتبارها كائنًا أدنى، مخلوقًا لمتعة الرجل، يجب استخدامه ثم تنحيته جانبًا.
ولقد نشرت الصحف منذ يومين فقط أن نجارًا مسلحًا فى كفرالشيخ اعتدى بالضرب على طفلته التى لم يتجاوز عمرها خمسة أشهر حتى كسر عظامها وتوفيت، وكان قد تزوج مرة وأنجب طفلتين ثم تزوج بأخرى فولدت له طفلة، فضرب الرضيعة حتى الموت لأنه على حد قوله «لا يرغب فى إنجاب البنات».
فى التحرش وفى وأد البنات، الذى ما زال مستمرًا بعد أكثر من ألف أربعمائة عام من تحريمه، سنلمس جوهر المسألة وباطنها الشعورى والفكرى: احتقار المرأة لأنها غاوية الرجال وجذر الخطيئة، وهى نظرة لازمت الفكر الدينى وليس الدين، نطق بها عبدالله رشدى حين قال إن الملابس الصارخة من أسباب التحرش، أى أن وجود المرأة بحد ذاته دعوة إلى الخطيئة وإغراء بها.. ونطق بالنظرة نفسها أيضًا القس داود لمعى، حين قال: «إن اللبس الخليع لبس الزانيات».
المرأة مذنبة بملابسها فى وقائع التحرش، ومذنبة بمجرد ظهورها فى الحياة، ومن ثم يجب وأدها وهى ما زالت قطعة لحم صغيرة.
المسافة بين التحرش والإعدام هى المسافة بين المحطة الأولى على الطريق والمحطة الأخيرة.. وما بين محطتى التحرش والإعدام يتم تدجين الفتاة بتربية طويلة تغرس فى أعماقها أنها أنثى لا بد أن تعتمد على جمالها، وأن هذه هى وظيفتها الأولى فى الحياة، ومن ثم فإن عليها أن تعتنى أكثر ما تعتنى بصدرها النافر أو شفتيها المكتنزتين، لا بروحها أو عقلها، وشيئًا فشيئًا يتم وأد المرأة اجتماعيًا وثقافيًا وعقليًا بعزلها عن المناصب وعن المشاركة فى الحياة العامة وبتطويقها بالمحظورات والممنوعات.
ولا تتكون تلك النظرة الدونية للمرأة إلا فى تاريخ طويل، يبدأ من المدرسة، وما تلقنه وتعلمه، ذلك أن جذر المشكلة فى التربية والتعليم الذى يجب أن يفتح الباب لاختلاط التلاميذ، لكى تتربى الفتيات مع الفتيان، ويلمس الأولاد فى التطبيق العملى ومن خلال الدراسة أن البنات لسن أقل منهم فى شىء.
الأمر الثانى أن يلتفت التعليم إلى توضيح دور المرأة بصفتها إنسانًا وإبراز ذلك منذ السنوات الأولى فى المدرسة، وإظهار أن المرأة عالمة وطبيبة ومخترعة وطيارة ومهندسة وفنانة، وليست ناقصة عقل كما يشاع، فقد أثبت العلم أن الفرق الطفيف بين وزن عقل المرأة والرجل لا يؤثر فى مستوى القدرات أو الذكاء.
وآمل أيضًا أن تشتمل مقررات وزارة التربية منذ الحصة الأولى فى المدارس على كتاب قاسم أمين «تحرير المرأة» أو شرح له، وكتاب رفاعة رافع الطهطاوى «المرشد الأمين فى تعليم البنات والبنين».
فى التربية أيضًا لا بد من تدريس وثيقة زواج رفاعة رافع الطهطاوى عام ١٨٤٠ التى سجل فيها بمحض إرادته التزامه أن يبقى مع ابنة خاله «وحدها على الزوجية دون غيرها» وعلق طلاقها منه على زواجه من أخرى: «أيًا ما كانت زوجة أو جارية، فإذا فعل كانت بنت خاله بمجرد العقد خالصة بالثلاثة».. وكان الطهطاوى فلاحًا صعيديًا لكنه رائد تنوير عبقرى.
ومن الضرورى أيضًا أن تحتوى المقررات الأدبية فى مناهج المدارس على روايات كتبتها نساء، وإلى جانب تلك المراجع الفكرية أتمنى لو أصدرت الوزارة كتابًا جديدًا يضع أمام التلاميذ صورة المرأة الإنسان، وليس المرأة الموضوع الجنسى، فيحدثهم عن نبوية موسى رائدة تعليم البنات، ولطفية النادى أم العلوم الفيزيائية، وفرحانة سلامة فدائية سيناء البطلة، وأم كلثوم، وعالمة الذرة سميرة موسى، وروزاليوسف، وهدى شعراوى، وعائشة التيمورية وغيرهن من سيدات مصر العظيمات.. بذلك فقط تتحطم لدى التلاميذ منذ اللحظات الأولى للتربية فكرة أن المرأة موضوع جنسى، وصولًا إلى أنها أخت الرجل وأمه وزميلته، وأن العالم لا يكتمل إلا برجل وامرأة.
وفى ذلك الكتاب الذى أحلم بصدوره لا بد فى الوقت نفسه من إزالة أوهام المرأة عن الرجل، لأنها فى الأغلب الأعم تترقب فارسًا لا يشق له غبار ليفوز بقلبها، ومن ثم ينبغى أن يقال لها إن الرجل ليس فارسًا ولا زوجًا ولا خطيبًا ولا عنترة بن شداد، إنه إنسان عادى يتساوى معها فى كل شىء، به من الضعف وبه من القوة ما بها.
إن ردم الطريق الذى يبدأ بالتحرش وينتهى بالوأد مستحيل دون تجديد مناهج التعليم، هذا لكى لا يفجعنا خبر عن والد يقتل طفلته لمجرد أنها أنثى.. علينا أن نحرث العقول مبكرًا، وأن نبذر البذور الجديدة مبكرًا إن كنا صادقين فى احترامنا المرأة والحفاظ على كرامتها.