محمود رضا.. خفقة الراية الجميلة
يحدث أحيانًا أن تغرق السفن، وتبقى راياتها عالية فى الريح إشارة إلى زمن وعصر انقضى، ولم تبق منه إلا الذكريات، هكذا رحل الفنان محمود رضا، مثل راية تنكسر فى الريح. أسس مع أخيه على رضا أول فرقة فنون شعبية فى العالم العربى، لكن ظهور الفرقة وصعودها كانا جزءًا من عصر كامل، حيث تولى وزارة الثقافة فتحى رضوان الكاتب المحامى، وتولى مصلحة الفنون الكاتب الكبير يحيى حقى، فى اللحظة التى كانت مصر تبحث فيها عن طريق للتحرر، وتقيم حركة عدم الانحياز بين قوتين عظميين: أمريكا والاتحاد السوفيتى.
حينذاك قال جوزيف تيتو عن الحركة وبلاد العالم الثالث: «نحن ضمير العالم ولسنا عضلاته». وعندما جاء تيتو فى زيارة لمصر لأول مرة فى فبراير ١٩٥٥، اتصل أمين القصر الجمهورى بـ«يحيى حقى»، المسئول عن مصلحة الفنون وأخبره بأن الرئيس عبدالناصر سيقيم حفل عشاء للزعيم اليوغوسلافى، وأنه يود أن يعقب العشاء حفل يقدم فيه بعض الفنون، ثم أضاف بالنص: «فاخطف رجلك إلى شارع الهرم وتخير لنا أرقى ما تجده من نمر الرقص الأوروبى».
وانزعج حقى من الفكرة، وطالب بمهلة، وقرر أن يبحث عن فنانين شعبيين ليقدم وجه مصر، وكان أبرزهم عازفًا على «طبلة بلدية» ريفيًّا وضريرًا، لكنه مذهل فى أدائه مع بعض الرقصات الإيقاعية الشعبية.
ولمس عبدالناصر مدهوشًا مدى إعجاب تيتو بالعازف فى جلبابه البلدى.. ويقول يحيى حقى: «ضارب الطبلة ذاك كان أول منفذ للفنون الشعبية إلى حصن الدولة»، فقد أدرك عبدالناصر ضرورة الاهتمام بالفن الشعبى، وهكذا أقيم لأول مرة مهرجان للفنون الشعبية فى مصر، وبدأ الإعداد لأوبريت من عدة لوحات تصور الفن فى محافظات مصر، ويشير رضوان فى كتابه «٧٢ ساعة مع عبدالناصر» إلى أن ناصر قال: «أنا عارف إن فتحى رضوان غير راضى عن طول حفلات أم كلثوم.. وكثرة ترديد المقطع الواحد عشرين مرة.. لكن محاولة تغيير هذا بمثابة الوقوف ضد التيار»، فقال له رضوان: «لكننا واقفون فى وجه التيار فعلًا.. ألست تقيم السد العالى؟». فأجابه ناصر: «السد العالى معلش.. لكن يأتى على الناس وقت لا يطيقون فيه أنفسهم.. دع لهم وقتًا يفرجون فيه عن أنفسهم». فأجاب رضوان: «لكن العمل الفنى وسيلة لرفع المعنويات، بينما حفلات الطرب عندنا عملية تعذيب»، فتمتم ناصر: «لن يستمر هذا كثيرًا.. بس إوعى تغضب أم كلثوم».
وبدأ الإعداد لأوبريت «يا ليل يا عين» بفكرة من توفيق حنا، وأعد النص على أحمد باكثير بمناقشة وحضور زكى طليمات وحضور ومساهمة وملاحظات نجيب محفوظ. وعرضت الأوبريت لأول مرة فى سبتمبر ١٩٥٦ فى دار الأوبرا القديمة بمشاركة نعيمة عاكف والمطربة شهرزاد، وحينذاك ظهر للمرة الأولى محمود رضا، ثم توقف عرض الأوبريت بسبب العدوان الثلاثى فى أكتوبر من العام نفسه. على هذه الخلفية من بحث الثقافة المصرية عن ملامحها نضجت فكرة إنشاء فرقة رضا، لكن ذلك تم فقط بعد نحو ثلاث سنوات عام ١٩٥٩، ولم تكن لديها بعد لا خبرة ولا تصور ولا طريقة، وتمت الاستعانة بخبراء الفن الشعبى الروس، وفى ذلك يقول د. زكريا عبدالشافى، صديق محمود رضا، إن الفرقة «اتخذت منهجها وفقًا للمدرسة الروسية»، بل وهناك فى هذا الصدد كتاب بعنوان «فرقة رضا والتدريبات الروسية» للدكتور مدحت فهمى. وأخيرًا قدمت فرقة رضا أول عروضها باسمها على مسرح الأزبكية فى أغسطس ١٩٥٩ ولاقت نجاحًا مدويًا، ومع الخبرة والوقت وروح الإبداع الأصيلة تمكن الأخوان رضا من تطويع القوالب الروسية لتعكس الفن الشعبى المصرى فى رقصاته وحركاته، فتصبح جزءًا من أجمل لحظات البهجة والبحث عن الأصالة فى الثقافة المصرية الحديثة.
لم يكن محمود رضا مجرد فنان كبير وموهوب، لكنه راية من زمن بعيد احتشدت لها قوى كبار كتاب مصر: يحيى حقى ونجيب محفوظ وعلى أحمد باكثير، واحتشدت لها روح البحث عن طريق للثقافة القومية، مع ظهور مجموعة يوسف إدريس «أرخص ليالى»، ومسرحيات نعمان عاشور «الناس اللى تحت»، وظهور كتاب أحمد رشدى صالح «الأدب الشعبى» عام ١٩٥٦ بصفته الكتاب الأول الرائد، لهذا أقول إن محمود رضا كان راية على سفينة الزمن الذى انقضى، راية ظلت تخفق بجمال ما استطاعت إلى أن كسرتها ريح الموت.