طموح البيزنس الأمنى التركى فى ليبيا
يُعد الموقع الفرنسى الشهير «أفريكا إنتلجنس» مقربًا بشكل كبير من الدوائر الاستخباراتية الأوروبية خاصة فيما يخص الشئون الإفريقية، لطبيعة اهتمامه وامتلاكه العديد من المصادر النافذة والمؤثرة على الأرض فى بلدان القارة الإفريقية، فضلًا عن ذخيرة هائلة من المعلومات والبيانات حرصت أجهزة تلك الدول عبر سنوات على إمداد خبراء هذا الموقع البحثى والإخبارى بها، حتى يتمكنوا من استخراج تحليلات ومتابعات مدققة لكثير من القضايا محل اهتمام الدول الأوروبية، حيث يربط الأخيرة ببلدان القارة حجم ضخم من المصالح المتشابكة لا تقف عند الحدود الأمنية منها وحدها.
حديثًا نشر الموقع تقريرًا مهمًا بعنوان «شركة سادات العسكرية التركية تحول تحالف أردوغان السراج إلى فرصة كبيرة للعمل».. من تفاصيل التقرير يبدو بالطبع الموقع وقد وضع يديه على معلومات جديدة وتفاصيل لنشاط الشركة التركية، التى يرأسها الجنرال التركى السابق «عدنان تانفردى» المقرب من رجب أردوغان وإحدى أذرعه النافذة فى دائرة حكمه.
الاجتماعات الأخيرة التى أجراها أردوغان مع السراج وقيادات الصف الأول التركى التى زارت طرابلس مؤخرًا تمكنت من إنجاز تعاقد مثير يطور شكل التعاون العسكرى الليبى التركى.. حيث يؤكد التقرير أن الشركة العسكرية التركية ظلت تسعى لشهور من أجل الفوز بعقود عسكرية، فى أعقاب توقيع أنقرة اتفاقيتى التعاون الأمنى والعسكرى مع حكومة الوفاق، وما استتبعهما من تدخل تركيا الواسع فى ليبيا. فشركة «سادات» التى أسست عام ٢٠١٢ وجرى الدفع بها من قبل أردوغان ليصبح تشغيلها بمعرفة جهاز المخابرات التركى وجدت أنها الآن مؤهلة أكثر من أى وقت مضى لعقد شراكة واسعة مع أطراف ليبية، يمكن من خلالها أن تجنى أرباح تشغيل طائلة فى حال ضمنت شركاء نافذين فى الأجهزة الليبية.
تقرير «أفريكا إنتليجنس» حدد أسماء الشركاء الجدد لشركة «سادات»، التى تمكنت الاستخبارات التركية من تأهيلها لعقد الشراكة الموعودة، وهى شركة أمنية إخوانية أنشئت حديثًا ويديرها المدعو «فوزى أبوكتف»، لتعمل فى نشاط تدريب وتأهيل القوات التى تقاتل من أجل حكومة الوفاق.
«أبوكتف» هو القائد السابق لكتائب «شهداء ١٧ فبراير» وهى الميليشيا التى تشكلت فى بنغازى، وسيطرت عليها بالتحالف مع آخرين فى الفترة التى سبقت «عملية الكرامة» ٢٠١٤، وقد شارك فى عملية التأسيس والقيادة فضلًا عن أبوكتف كل من «عبدالحميد الحاسى» و«أحمد الشولطامى»، وهما من قيادات «مجلس شورى ثوار بنغازى» الذى يمثل ائتلافًا من الجماعات الإسلامية المسلحة، بقيادة تنظيم «أنصار الشريعة» الفرع الليبى الشهير لتنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى.
تقدم شركة «سادات» نفسها لليبيين بسابقة أعمال حافلة، تتمثل فى قيام خبراء الشركة من العسكريين القدامى بالجيش التركى بتدريب وتأهيل المقاتلين والمتمردين السوريين على الأراضى التركية، قبل الدفع بهم للانخراط فى العمليات العسكرية «٣ عمليات كبرى»، التى نفذها الجيش التركى والتى أثمرت عن احتلال كامل لأراضٍ واسعة بالشمال السورى.
ومما يذكره التقرير أن المجموعات السورية المشار إليها، والتى تعمل اليوم كقوة «شبه نظامية»، تعزز لديها الولاء لتركيا، وبالأخص لقيادات الاستخبارات العسكرية من رجال أردوغان على حساب وطنهم الأم سوريا.
وحسب التقرير، تختلف الصورة قليلًا فى ليبيا، حيث تدخلها شركة «سادات» بموجب الاتفاقية الأمنية والعسكرية الموقعة فى ١٩ ديسمبر الماضى، بين أردوغان والسراج ممثلًا لحكومة الوفاق.. عقب هذا التاريخ كلفت الحكومة التركية الشركة العسكرية الخاصة بالقيام بمهام تقييم احتياجات قوات الوفاق من التسليح والمقاتلين، وقد رفعت هذا التقييم مدفوع الأجر من البنك المركزى الليبى إلى رجب أردوغان من إدارة الشركة فى أسطنبول.
وقد أصدر الأخير تعليماته بالإسراع فى إنشاء «مقر أمنى» للشركة يقع فى قرية «بالم سيتى» الآمنة بمنطقة «جنزور»، التى تبعد نحو ١٢ كم عن غرب وسط العاصمة طرابلس، حيث يقيم فيها كل من بعثة الأمم المتحدة للدعم فى ليبيا وبعثة الاتحاد الأوروبى الموكل إليها مهام المساعدة فى مراقبة الحدود.
ومن المهام التى تحصلت عليها الشركة الليبية المرشحة للشراكة مع «سادات» العسكرية، تدريب الوحدات العسكرية الخاصة وحرس المنشآت، وتقوم أيضًا بمهام أمنية منتظمة للشركات الأوروبية والوفود الدبلوماسية، كما فازت مؤخرًا بعقد توفير الأمن خلال زيارة إلى العاصمة طرابلس قامت بها بعثة أوروبية فى مارس الماضى. كما وفرت الشركة الليبية الجانب الأمنى منذ فترة طويلة لحماية الوفود من الحكومة الفرنسية، ومجموعة النفط الفرنسية «توتال» وغرفة التجارة الليبية الفرنسية، بفضل شراكتها مع شركة الأمن الفرنسية «جيوس» قبل أن تنسحب الأخيرة من هذه الشراكة فى عام ٢٠١٨، بعد ظهور مخاوف فى جهاز الأمن الدبلوماسى بوزارة الخارجية الفرنسية، حول معلومات توافرت لديها عن العلاقات الوثيقة للشركة الأمنية الليبية مع تنظيمات الحركة الإسلامية فى طرابلس وخارجها.
جاء الانسحاب الفرنسى ليفتح المجال أمام شركة «سادات» للتقدم، ولم يكن هناك أفضل من شركة «فوزى أبوكتف» الذى ما زال يستخدم لقب «السفير»، وهو المنصب الذى حصل عليه كسفير لبلاده فى أوغندا عام ٢٠١٣، حيث يعد هذا الشخص المتنفذ فى الحكومة الحالية وفى أوساط قيادات الإخوان والإسلام السياسى العاملة فى ليبيا وخارجها، وهو الشريك المثالى الذى سعى هو الآخر من جانبه لتسهيل وصول الشركة التركية إلى الداخل الليبى، حيث قام عام ٢٠١٩ بالاعتماد على روابطه مع «سادات» ليعرض مبيعات لمجموعات البناء التركية، التى تنشط فى البناء والطاقة والبنية التحتية البحرية والمطارات والسياحة والصناعة.. كما قدم خدماته إلى شركات النفط التركية التى كانت تتأهب للدخول إلى السوق الليبية، وبالفعل قام «أبوكتف» بتسهيل الحصول على مقار لأكثر من مجموعة تركية تعمل بهذا المجال فى العاصمة طرابلس.
ولعب دورًا مهمًا فى هذا المحامى التركى «زكى أريتورك»، مؤسس شركة «أريتورك وشركاه» الذائعة الصيت، كونها هى القائمة على أعمال المنظمات غير الحكومية الإسلامية فى تركيا، وعلى رأسها «هيئة الإغاثة الإسلامية التركية» التى تنشر وتمثل السياسة التركية فى إفريقيا، وهى المالكة الآن لما جرت مصادرته من مدارس وهيئات إنسانية كانت تابعة لـ«فتح الله جولن»، قبل أن يستولى عليها نظام أردوغان ويستبدل إدارتها بالهيئة التى تتبعه مباشرة.
شبكة «معقدة» ومتنامية للبيزنس الأمنى الذى يمتد لأنشطة أكبر وأشمل، قد يبدأ بالبناء لكنه لا يقف عند عقود واتفاقيات الاتجار فى النفط الليبى، فهناك ما هو أقرب وأخطر متمثلًا فى رعاية وتشكيل «المرتزقة»، فضلًا عن الاقتراب اللصيق الذى تضطلع به الشركة الليبية وتريد اليوم «سادات» التركية، أن تحظى بهذه الشراكة التى تجعل قبضتها قريبة من مكونات «المنطقة الخضراء» الليبية، التى يبدو أنها على وشك التشكل بالعاصمة طرابلس.