الديكتاتورية والقطيع
صدر الغرب الرأسمالى لقطيعه أوهامًا شتى فضحها فيروس كورونا وعراها فى بضعة أيام؛ ليكتشف القطيع ويفيق على كابوس مفاده أن دأبه وسعيه المتواصل فى ظل الاقتصاد الحر، الذى لا يلتزم بعدد الساعات المقررة دوليًا للعمل، ويمتد لمدد قد تصل أو تزيد على ١٦ ساعة من العمل المتواصل فى اليوم الواحد، قد يضيع فى لمح البصر.
صدر الغرب الرأسمالى أيضًا عدة أكاذيب أحكم سبكها، فلقد فتح للناس أبواب الثراء والخيال والحلم وجعلهم يدمنون ثقافة الاستهلاك والامتلاك، فى حين صار هؤلاء الملاك عبيدًا لممتلكاتهم وليس العكس.. عبيدًا لا بد لهم من العمل المتواصل دون التقاط الأنفاس ودون تفكير وبالطبع دون رحمة لسد ديون القروض التى بها امتلكوا ما اعتقدوا أنهم ملكوه، فى حين أنها أوهام وهواجس الامتلاك ليس إلا، فلكى تمتلك بيتًا فى الغرب فإنك تحصل عليه فى أقل من شهر، ولكنك تظل تسدد فى أقساطه للبنوك لمدة قد تتجاوز الثلاثين عامًا، وإن عجزت عن السداد ينتزع منك ما ظننت وهيئ لك أو هيأوا هم لك أنك امتلكته بالفعل.
والنظام العالمى حاليًا يمكنه أن ينتزع منك بيتك وسيارتك الفارهة، ومعهما اليوم روحك (حياتك) وحياة ذويك، فبعد أن درست وتعلمت وأفنيت عمرك فى دراسة شئون الاقتصاد وأمور التجارة وتنقلت بين الوظائف وصارت لديك أموال فتزوجت واقتنيت بيتًا وسيارة وحاصرتك الديون.. يحاصرك الآن فيروس لا تراه عيناك وقد ينتزع روحك وأرواح من تحب فى عشرة أيام.
ما قيمة البيت إذن والسيارة الفارهة والملابس والأحذية والساعات والمنتجعات واليخوت وكل ما حلمت به بعد أن قرر أسياد الغرب لك أن تموت وأن تودع أحباءك؟
هل حلمت بكل هذا وكبر حلمك واشترك معك فى تلك الأحلام محبوك ليفيق الجميع الآن على واقع جديد يقول: ودع حياتك نفسها وأحلامك ومعهما من تحب؟
صدر لنا الغرب الرأسمالى أيضًا قيمة وثقافة طالما تشدق بهما، وهما «الديمقراطية» و«الحرية المطلقة للفرد» فى كل شىء، وأن بلداننا ترزح تحت نير العبودية والديكتاتورية، وبالطبع أن يكون الإنسان حرًا فى كل شىء ويقاوم الديكتاتور ويثور ضده ويسقطه كما سقط صدام حسين، فهذا شىء رائع ولكن ماذا بعد؟.. ماذا عن الحياة بعد سقوط الديكتاتور؟.. ماذا عن حق تقرير المصير؟
ما جدوى أن يكون لك مطلق الحرية فى أن تقول وتفعل ما تريد، ولكن ليس لك الحق فى اختيار مصيرك إن قرر لك ساستك وسادتك الديكتاتوريون أنه عليك أن تفتح ذراعيك لاستقبال الفيروس بالأحضان لتستمر وتسرع وتيرة التجارة والأعمال ويزيد الربح، حتى وإن خسرت روحك وخسرت من تحب؟
يقول لك الديكتاتور الجديد اللطيف الناعم، اليوم، افتح ذراعيك واستقبل المرض ومت سريعًا أنت ومن تحب.. نريد موتًا ناجزًا سريعًا وأكبر نسبة عدوى مرضية ممكنة حتى نصل للذروة والحافة، فيصاب ويموت أكبر عدد ممكن من الناس فى وقت قياسى فيتحصن المتبقون وتظل الآلة دائرة.. آلة الربح وآلة القتل، الاثنتان معًا.. الديكتاتور يقتلكم دون أن تسيل نقطة دم واحدة ودون دمعة واحدة أيضًا يذرفها الديكتاتور على من رحلوا.. فالديكتاتور لا يبكى.. هو فقط يجعلك تبكى حتى الموت ويجعلك أحيانًا تتمنى الموت، بل وتقدم عليه لأنك تعلم يقينًا أنه عليك الاستعداد لاستقبال فيروس آخر فى الشتاء المقبل ليجهز بدوره على نصف من تبقى، وهكذا دواليك حتى يموت ثلاثة أرباع الكوكب!.
كل ذلك لا يهم.. بل كل ذلك مطلوب، وربما يكون مخططًا له، عجلة الإنتاج والأرباح هى الأجدى والأهم.
ويبقى السؤال: من سيتبقى على قيد تلك الحياة بمعجزة أو بالمصادفة وقد فقد أحباءه.. هل سيعمل ذلك الفرد بطاقة وكفاءة مثلما كان يفعل فى السابق، وهو يعلم أن دوامة الفيروس بدأت لتستمر وتتعقد وتتطور؟ هل سيُقبل ذلك الفرد على اقتناء وامتلاك الأشياء المريحة الفارهة، وهو يعلم أنه سيودعها ولن يستطيع تركها لأبنائه، فلربما قد يسبقونه ويغادرون هم الحياة أولًا؟
أين سينفق الأثرياء أموالهم فى المستقبل القريب؟ فى أى اتجاه سيوجه الإنفاق؟
هل سيحرص الأب على اقتناء بيت وسيارة لابنه، أم سيفضل اقتناء جهاز تنفس صناعى لإنقاذه إن هاجمه الفيروس؟
هل سيقتنى الأثرياء بواخر ويخوتًا فى البحار أم أسرة مجهزة ومعدات طبية بعدد أفراد الأسرة؟
هل سينفقون أموالهم على أحدث الأجهزة التكنولوجية والهواتف الذكية أم أحدث أجهزة الإنعاش؟
من سيقتنى إذن يا سادة هواتفكم وأجهزتكم الذكية فى المستقبل؟ ومن سيشترى اليخوت والقصور التى تبنونها بعد أن ودع الآلاف محبيهم وأزهقت الأرواح؟
اعتقاد هؤلاء بأن ذكاءهم خارق.. أمر أوقعهم فى مأزق ينم عن غباء منقطع النظير جعلهم يجهلون أن غريزة الامتلاك والرفاهة لا يمكن لها أن تنتعش إلا عند أناس لديهم غريزة أقوى، وهى غريزة البقاء، وإن هددت تلك الغريزة الأولية الأساسية فلن يكون هنالك مكان لبقية الغرائز.
لقد أفقتم العالم على كذبة كبيرة عندما دعوتم الناس للحلم بالثراء وفتحتم لهم طاقات الحلم على مصراعيها، والآن تقولون لهم موتوا وبأسرع وقت ممكن وبأكبر عدد ممكن أنتم وأحباؤكم.
وهكذا تحول الحلم لكابوس وأصبحت كل مغرياتكم وبضائعكم لا ضرورة لها ولن تجدوا من يشتريها أو يريد اقتناءها. إذ سيسارع الجميع لسد احتياجاته الأولية من مأكل وشراب ودواء، وإن كان يستطيع اقتناء شىء نفيس لن يكون ذلك الشىء سيارة أو منتجعًا أو طائرة خاصة أو يخوتًا فى البحار.. سيهرع الأثرياء لاقتناء أجهزة للتنفس الصناعى لهم ولمحبيهم أيها السادة الديكتاتوريون الأغبياء.