إيران.. أن تكون سجين الزيف الكامل
نتحدث عن إيران، الدولة التى تقدم نفسها باعتبارها قوة إقليمية تحمل مشروعًا كبيرًا وطموحًا، يتعدى حدودها الجغرافية، ممتدًا إلى نقاط بعينها فى دوائر جوارها المباشر، وغير المباشر الذى لا يبعد كثيرًا عن تلك الدوائر. الملك الراحل حسين بن طلال الذى قضى على عرش المملكة الأردنية ما يزيد على ٤٧ عامًا، شهدت فيها الأردن والمنطقة الكثير من الأحداث الكبرى، كان أول من أطلق إنذارًا مبكرًا أسماه حينها بـ«الهلال الشيعى»، فقد تلمس الملك المحنك محطات تشكله التى كانت تدور حول مملكته وعلى حواف ارتباطاتها. ومنذ هذا التوقيت المبكر، وإيران ذاتها أسعدتها التسمية بشكل كبير، وأضافت عليها بعد سنوات من إطلاقها، وهى على طريق إنفاذ تمكين حقيقى لنفوذها وتواجدها الفعال، بأنه لما لا يكون الأمر «قمرًا مكتملًا» ولا يقف عند حدود الهلال!
عقد أخير كامل، ربما لم تشهد إيران تمددًا ناجحًا أو هكذا بدا بأكثر مما وصلت فيه، لكن جاءت أشهر النصف الأخير من العام ٢٠١٩، لتحمل معها وضع هذا التمدد والانخراط العميق بداخل أحداث الإقليم، أمام اختبار ومحك دقيق لم تحسب طهران حسابه بعد فصول من السطوة والتداخل، جعلها تبدو ممن هم أصحاب الكلمة والنهى فى مصائر دول، بحجم سوريا والعراق. فضلًا عن اليمن ولبنان. فى هذا الاختبار تعرضت طهران لانكشافات سريعة، فقد جاء قيادة الشباب الشيعى للحراك الشعبى الكبير الذى ضرب المدن العراقية، كلطمة قاسية لم يحسب المشروع حسابها يومًا، فقد ظن طوال سنوات تشكله أن هؤلاء هم وقوده والمنتفعون به. فإذا هم ذاتهم من يوجهون احتجاجهم وفعلهم الثورى بوجه التسلط الإيرانى، ويدفعون الدماء السخية مقابل الوصول لهدف تحرير وطنهم، وإزاحة الطبقة السياسية منهم، بخاصة الموالون لإيران والدائرون فى فلك المشروع الكبير. هذه الموجة العراقية العاتية، فاقمت من الاختبار الإيرانى فيما بعد مقتل «قاسم سليمانى»، باعتباره رأس حربة «عملياتى» للمشروع برمته من خلال قيادته لـ«فيلق القدس»، حيث يباشر الأخير الإشراف على كل الأذرع الموجودة على الجبهات الحاضرة فى كل دول النفوذ. فقد كان سليمانى وفق منصبه، مخولًا لقيادة نهج الحكومة الإيرانية بالكامل فى التعامل مع النشاط الإقليمى، وذلك بدعم من تقاربه مع المرشد الأعلى «خامنئى»، وسماته وإيمانه العميق بالمشروع ككل، فضلًا عن ديناميته الشخصية وأقدميته العسكرية المتقدمة على قادة «الحرس الثورى» الإيرانى الآخرين. لذلك ظل سليمانى يتنقل بين بؤر التوتر بكفاءة وحيوية وصلاحيات غير محدودة، حيث حضر شخصيًا وأجرى محادثات رئيسية مع كل الشركاء حسب الضرورة، وقد تنوع عمله ما بين المجالين السياسى والعسكرى، كما تولى مهام استخباراتية مؤثرة. هذا ما جعل الحرس الثورى علامة مسجلة تمتد من إدارة ودعم جبهات القتال، وصولًا إلى التوسط بسهولة فى تعيين رؤساء الوزراء العراقيين وقيادات العمل الميدانى السورى.
هذا التمدد الكبير والمؤثر للمشروع الإيرانى، ربما مع أول اختبار بحجم اغتيال قائده العملياتى، الذى يفترض أنه ليس القائد الوحيد، أو أنه بالضرورة هناك صفوف متراصة بمهارة وقدرات على الحسم والإدارة، بدا وكأنه قد حقق كل ما تمكن الوصول إليه بسبب ضعف الآخرين، وليس استنادًا على قوته الذاتية التى بدت على قدر من الهشاشة والهروب السريع من المجابهة، مع أول اختبار مطلوب للرد على عملية اغتيال «الأيقونة»، كما تسمى سليمانى والحرس الثورى طويلًا. فانقلب رد الفعل «المزلزل» الذى طالما توعدت به إيران وأذرعها، كل أعدائها على مختلف الجبهات، وبالأخص الولايات المتحدة وإسرائيل، إلى طوفان هادر من «التصريحات الإعلامية» ليس إلا تصديًا للبعض منها «حسن نصر الله» من الضاحية الجنوبية لبيروت، والبعض الآخر الأكثر ضجيجًا والأوسع انتشارًا جاء على لسان القادة الإيرانيين، وعلى رأسهم المرشد الأعلى الذى لم يظهر بجواره فى تلك المرحلة الزمنية الكاشفة، سوى زيارة لأمير قطر قال فيها عن العلاقات مع الدوحة، «يجب توسيع نطاق العلاقات الإيرانية- القطرية، بالطبع أولئك الموجودون فى تلك المنطقة فى الطرف الآخر من العالم، لا يحبذون علاقات أكثر قربًا بين دول المنطقة، هذا ليس شأنهم ولن تقبل دول المنطقة هيمنتهم وتدخلهم»، معتبرًا علاقات متميزة مع دولة قطر تعد إنجازًا وتحديًا لهؤلاء الموجودين على الجانب الآخر من المشهد، على حد تعبيره. وقبل أمير قطر، كان وفد «حركة حماس» الذى أراق الدموع والقبلات على يد المرشد العام، فى ديباجات المبالغة الحمساوية المعهودة فى المناسبات من هذا النوع، فضلًا عن إسباغ أدوار بطولية مزيفة للقائد العسكرى الإيرانى فيما يخص القدس والقضية الفلسطينية.
الداخل الإيرانى الذى انتفض بقوة فيما بعد تلك الأحداث، يرجعه بعض المحللين الإيرانيين ذاتهم، بأنه يعود إلى حالة الغضب الكبير مما تابعوه خلال محطات التصاعد غير المتوقع، بداية من الهجوم على السفارة الأمريكية ببغداد، وصولًا إلى إسقاط الطائرة الأوكرانية بطريق الخطأ، أو بالعمد المترهل الذى لم يتمكن من كشف هويتها المدنية، مرورًا باغتيال سليمانى، والرد الصاروخى المتهافت على الحادث ملحوقًا بالإسراع فى إعلان أن هذا كافٍ من الجانب الرسمى الإيرانى. فقد شعر الإيرانيون بإهانة تطورت مع هذا التنامى لتحتل حالة انكشاف الزيف العريض للمشهد برمته، والذى كان آخر ما توقع الإيرانيون أن يكون مشروعهم، وأيقوناته على هذا القدر من التزييف المتعمد الذى سرعان ما ارتدى لباس البراجماتية، وأكد أنه لن يصعد بأكثر من ذلك، فى الوقت الذى كانت جموع المهاويس بالمشروع الكبير، تدهس أرواح ٧٠ قتيلًا فى مناسبة واحدة، هى تشييع هذا القائد، الذى ظنته الجماهير رمزًا سيكون أغلى على إدارة المشروع وقياداته، من مجرد تلك التصريحات الإعلامية والتهديد الفارغ بالمستقبل الذى ينتظر ما لن يأتى من وجهة نظرهم. صدمة انكشاف الزيف، ضربت بقوة أساس المشروع الإيرانى فى الداخل، ولا محالة أصابت أذرع الخارج الذى لم يفق بعد من الضربة، وهنا قد تكون الفرصة سانحة، لمن يريد تحطيم وتقويض هذا السجن الكبير الذى صنع من أوهام وإعلام وحناجر واستخبارات، وعمل سرى دءوب تمكن من التغلغل فى تفاصيل بلداننا ومحاورنا الاستراتيجية العربية المهمة.