مَنْ الذى سيمزق العراق أولًا؟
عنوان هذه الزاوية الأسبوع الماضى، كان «إيران تتجرع سموم الغضب فى العراق»، أو هكذا بدا المشهد مع نهاية الأسبوع الماضى، لكن الأسبوع لم يمض، قبل أن يلقى الرئيس العراقى بقفازه فى وجه الكيانات السياسية الموالية لطهران، التى ظلت طوال أسابيع مضت تمارس على الرئيس حملة ترهيب وابتزاز هائل وصلت إلى حد التهديد العلنى، بعد أن فشلت الرسائل السرية فى إجبار الرئيس «برهم صالح» على تمرير مرشحهم، المتناقض والمرفوض مع حراك الشارع. المقال المشار إليه تناول الملامح التى بدت معبرة عن عمق الأزمة التى تمر بها إيران، على الساحة العراقية على الأقل، مما كان يؤشر إلى أنها ستحاول جاهدة الهرب للأمام بأى صورة من الصور.
استقالة الرئيس صالح، بقدر ما كانت صادمة عبر تفاصيل إعلانها ورحيله إلى السليمانية، جاءت كخطوة كاشفة عن أن العراق فعليًا وبعد الحراك العنيد للشارع وصل إلى نقطة انسداد يصعب الالتفاف حولها. لذلك اتجهت الأذرع الإيرانية إلى تلمس طريق للهرب، عبر قصف صاروخى باستخدام الـ«كاتيوشا» على قاعدة «K ١» العسكرية الأمريكية بالقرب من مدينة «كركوك»، حسب المعلن، وهذا أظنه جاء مخلفًا خلف القصف قتيلًا أمريكيًا واحدًا، وأوقع إصابات عديدة لم يجر تحديد عددها فى صفوف العسكريين الأمريكيين والعراقيين، كما أحدث بشكل مؤكد تدميرًا جزئيًا فى منشآت القاعدة. التزمت واشنطن ضبط النفس فى مرات سابقة، كان آخرها قصف صاروخى مماثل وقع بداية نفس الشهر «ديسمبر»، ربما جاء بنفس غرض فتح ثغرة ما بقدر استفزاز القوات الأمريكية غير المتداخلة فى المشهد الاحتجاجى، استهدف قاعدة «عين الأسد» الواقعة فى محافظة الأنبار الكبيرة غرب العراق. لذلك كان الرد الأمريكى من الناحية النظرية واجبًا على مستوى ضبط معادلة التوازن، وإنفاذ رسالة مؤلمة لأذرع إيران، تتناسب مع تلك الاستهدافات العبثية غير المبررة فى الوقت الحالى على الأقل.
لهذا جرت الغارة الجوية التى نفذتها طائرات «F ١٥» الأمريكية، على ٥ مواقع تابعة لكتائب «حزب الله العراقى»، بينها ٣ فى العراق و٢ على الأراضى السورية، مما أحدث إصابات بالغة تمثلت فى مقتل ٢٨، وإصابة ٥٠ شخصًا من صفوف تلك السرايا، التى تمثل أحد أهم مكونات «الحشد الشعبى» العراقى. وكان الجانب الأمريكى حريصًا على الإعلان عن أن هذه الضربات تأتى ردًا على هجمات صاروخية شنتها الكتائب على قواعد عسكرية عراقية تستضيف جنودًا ودبلوماسيين أمريكيين، وتلحق ذلك باتهام صريح لإيران بأنها، عبر وكلائها من الفصائل العراقية، تقوم بشن هجمات صاروخية ضد قواعد عسكرية أمريكية. ويعد ما جرى من الجانب الأمريكى هو السبب المعلن لما جرى منذ أمس الأول فى محيط «السفارة الأمريكية» ببغداد، وهذا التجييش الكبير الذى قام به «الحشد الشعبى» لأنصاره فى محاولة لاقتحام السفارة بالضغط البشرى واستخدام الإشعال والتدمير، لنقاط رمزية حول السفارة التى تقع فى قلب المنطقة الخضراء. ولينجح «الحشد الشعبى»، عبر يومين كاملين، فى صناعة «مشهد مثير» يحتل كل وسائل الإعلام والأذهان بالداخل العراقى، ولدى أطراف صراع تلك الأزمة. لذلك قد يكون هناك نجاح جزئى قد تحقق بانسحاب كبير للأزمة السياسية العميقة التى كانت تستهدف «الوجود الإيرانى» بالعراق، لصالح أكبر مساحة من الجدل يجرى تزكيتها، حول «الوجود الأمريكى» وحدود عمله وأدواته المسموح بها. تكسير حقيقى للعظام يجرى بدأب على تلك الوتيرة، خاصة أن الكواليس المعلنة التى تحظى بمتابعة الجميع لا تخلو من مكونات الإثارة القادرة على فرض امتداد زمنى لتلك المعادلة، فهناك «جنود المارينز» بزيهم التقليدى المستنفرون لحماية مبنى السفارة من الاقتحام، وآخرون جرى استجلابهم من الكويت على عجل ليقدموا دعمًا مطلوبًا قد يواجه تصعيدًا متوقعًا ومهندسًا من الطرف الآخر، والأخبار تنقل على شريط العواجل أن مجموعات أخرى يجرى تجهيزها بالولايات المتحدة، لتصل إلى المنطقة خلال اليوم أو غدٍ لتنضم إلى ٥٠٠٠ عسكرى أمريكى موجودين فعليًا، على الأراضى العراقية وحدها بمقتضى الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة بين البلدين.
المعتبرون اليوم أن العراق قد جرى صناعة ساحته، لتكون بمكوناتها المثالية من وجهة نظر المتصارعين هى مسرح عمليات الحرب والصراع ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. بدأ الكثير منهم يقيس موازين القوة لكل طرف، ومساحات الحركة المتوقعة والمتاحة أمامه، كى تستشرف سيناريوهات ما هو قادم داخل نفق الأحداث المظلم. الولايات المتحدة تمتلك الكثير من نقاط التواجد العسكرى «الشرعى»، الذى جرى انتزاعه باتفاقيات صارمة فيما بعد الغزو واحتلال العراق، البعض منه كان بمثابة صفقات ما بين الطرفين المتصارعين الآن، تحصل واشنطن بمقتضاها على هذا التواجد الحاكم بصيغ شرعية، فى مقابل تسليم إدارة البلاد لـ«وكلاء» طهران والصمت على تغولهم واستئثارهم بحقوق المكونات العراقية الأخرى. هذه الصيغة يراد اليوم تعديلها أو إخضاعها للتغييرات التى تتناغم مع ما جرى من أحداث أخيرة، فبعد أن ظل الاتهام الإيرانى لواشنطن بأنها هى التى تقف وراء الحراك الاحتجاجى الذى يستهدف قبضتها على المشهد السياسى العراقى، كانت واشنطن تنتظر بهدوء أن تتبدل المعادلة العراقية، ولو جزئيًا، لصالح تقليص مساحات نفوذ طبقة الحكم الموالية لطهران. وأسهم فى تمدد الهدوء الأمريكى أن هذا الاتهام الإيرانى لم تنجح طهران فى تسويقه أو إقناع أحد به داخل العراق أو خارجه، واشنطن فى ذات الوقت ربما فشلت فى تقدير أن معادلة النفوذ الإيرانى عنيدة بأكبر من عناد شباب الحراك الذى تكبد خسائر الأرواح بالرصاص ولم يتراجع. فطهران لم ولن تقبل الهزيمة على الساحة العراقية ببساطة وعبر أشهر من المشاهد الدامية، حتى لو امتدت لعام كامل تقريبًا كما جرى طوال ٢٠١٩.
لكن الحقيقة أن طهران فى طريق بحثها وصناعتها مخارج آمنة من الضيق الخانق الذى كانت تقف فيه قبلًا، وواشنطن التى كانت تراهن على أن الحراك الاحتجاجى يمكن أن يغير لها معادلات القوة والنفوذ على الأرض، دون تحمل كلفة وعناء هذا الأمر. ربما غاب عن كليهما أن ما جرى ويجرى وسيجرى فى العراق إنما عبّر عنه العراقيون بوضوح فى الساحات من أنه يستهدفهما معًا، بالرفض والحلم بالانعتاق من تلك الدائرة الجهنمية، ونقض ما جرى تدشينه سابقًا فيما بينهما على حساب الجسد العراقى.