إشكالية سلاح اللاجئين السوريين بيد أردوغان
لم يكن الرئيس التركى رجب أردوغان يمارس نوعًا من المزاح «الثقيل» مع دول الاتحاد الأوروبى، وهو يهدد بفتح حدوده أمام اللاجئين السوريين، للتوجه نحو أوروبا. فالحديث جدىٌّ، والتهديد قائم فعليًا، وقد جرى استخدام هذا السلاح من قبل وأثبت نجاعته، ليس فى إطار الابتزاز السياسى فحسب، إنما من أجل استجلاب الأموال التى قننت بعد دفعات خفية ظلت منتظمة طوال سنوات، لتتطور ويجرى وضعها فى بنود اتفاق مع الاتحاد الأوروبى عام ٢٠١٦م، يلزم الاتحاد بمقتضاه بدفع «٦ مليارات دولار» إلى تركيا لوقف عبور المهاجرين السوريين إلى أوروبا.
أمام هذا الرقم المتفق عليه؛ يدعى أردوغان فى تصريحه الأخير الذى ألقاه الخميس الماضى أمام أعضاء حزبه، أن «هناك تهديدًا جديدًا بشأن الهجرة من منطقة إدلب، إما أن يشتركوا معنا فى تحمل العبء أو أننا سنفتح البوابات». معاودًا التلويح مرة أخرى بورقة اللاجئين، لكن هذه المرة على خلفية أزمة اقتصادية خانقة، تمر بها تركيا وتتنامى فيها فاتورة الإنفاق لحزبه بصورة مطردة. ومثل التاجر المفلس تمامًا، لا يتورع مطلقًا فى التلاعب بالأرقام، فيدعى أن تركيا أنفقت ٤٠ مليار دولار على اللاجئين السوريين، وأن ما وصله من مساعدات الاتحاد الأوروبى لم تتجاوز ٣ مليارات دولار. هذا التلاعب الفاضح والتهديد الخشن استدعى ردًا من الاتحاد عبر «ناتاشا بيرتود»، المتحدثة باسم الاتحاد، مذكرة أردوغان بـ«الدعم الكبير» الذى تلقاه من دول الاتحاد، ومحددة بشكل علنى أنه «حتى يومنا هذا؛ قدم الاتحاد الأوروبى ٦.٢ مليار دولار، متجاوزًا بذلك أصل ما جرى الاتفاق عليه وهو رقم ٦ مليارات دولار»!
لكن حقيقة الوضع على الأرض نجدها تتجاوز هذا الخلاف المالى، الذى كشف جانبًا من حجم الاستفادة التركية من ورقة اللاجئين السوريين. فالأمر ربما أثارته اليوم على لسان أردوغان والدخول فى تلك المساجلات مع الاتحاد، ليس سوى ستار من الدخان يخفى خلفه حقائق مزرية لها علاقة بهذا الملف الشائك، حيث يبدو أنه جرى اتخاذ قرارات تركية داخلية، تحمل ملامح لاستراتيجية جديدة متكاملة للتعامل مع ملف اللاجئين السوريين، الذين يبلغ عددهم فى تركيا نحو ٣ ملايين لاجئ سورى، وهو رقم حرصت عليه تركيا منذ بداية الأزمة عام ٢٠١١م، واستخدمت منهم من استخدمت فى مسارات متنوعة لإدارة انخراطها فى الملف السورى، بداية من تشكيل ميليشيات كاملة، «الجيش السورى الحر»، الذى دخل مع قوات الجيش التركى الرسمية، إلى الأراضى السورية فى عمليتى «درع الفرات» و«غصن الزيتون»، وصولًا إلى تشغيل اللاجئين فى المصانع التى جرى تفكيكها كاملة من المنطقة الصناعية بحلب، لإعادة تجميعها وتشغيلها بداخل تركيا فى عامى ٢٠١٢ و٢٠١٣.
وما يعد كشفًا عن تلك الاستراتيجية الجديدة، التى ينتهجها النظام التركى مؤخرًا فيما يخص ملف اللاجئين السوريين، نشرت «منظمة العفو الدولية» تقريرًا فى ٢٨ يوليو ٢٠١٩م، يتناول فيه ما جرى رصده من سياسات الإعادة القسرية التى تقوم بها السلطات التركية بحق عدد كبير من اللاجئين السوريين، كما تزامن ذلك مع تنامٍ واسع لحالات الاحتجاز والإهانة والضرب، خلال ممارسة لضغط بدنى ومعنوى من أجل توقيع استمارات بالموافقة على «العودة الطوعية» إلى سوريا. وطالب التقرير صراحة تركيا بالتوقف عن ترحيل اللاجئين إلى سوريا، لأنها ما زالت بلدًا خطيرًا على حياة المدنيين، الذين يتعرضون للقصف الجوى من النظام، وتهديد الجماعات المسلحة بالعمليات العدائية. أيضًا ما يلحظه المتابعون على الساحة التركية؛ أن هناك حملة عنصرية مستمرة وواضحة تمامًا للعيان، حيث تمت زيادة نقاط التفتيش على وثائق تسجيل السوريين فى مدينة إسطنبول والمدن التركية الكبرى، على خلفية تأجيج الرأى العام ضد السوريين، والمطالبات المتكررة بضرورة ترحيلهم.
المصادر التركية ومحللو هذه الظاهرة الجديدة، يرجعون الأمر إلى الانكماش الاقتصادى والافتقار إلى خيار الإقامة طويلة الأجل للسوريين، فى ظل تنامى التضخم وارتفاع نسب البطالة، خاصة فى إسطنبول، التى شهد الكثير من أحيائها هجمات منظمة استهدفت تجمعات السوريين. فمشاعر العداوة تنبع من تنافس العمالة التركية الاقتصادية مع نظيرتها السورية، حيث تقبل الأخيرة- بسبب مشكلات الإقامة- بنصف الأجر الذى يتلقاه الأتراك عن نفس المهنة. وهذا ربما يفسر اللهجة العالية التى يتحدث بها أردوغان فى هذه القضية، فهو فى جانب منه يريد امتصاص غضب الشارع المأزوم اقتصاديًا بالأساس. هذا لم يكن بعيدًا عن استطلاعات للرأى تناولت هذ الأمر، فمؤخرًا نشرت جامعة «قادر هاس» أن نسبة الأتراك غير الراضين عن وجود السوريين، قد ارتفعت من ٥٤.٥٪ عام ٢٠١٧ إلى ٦٧.٧٪ عام ٢٠١٩. وفسر ذلك بأنه يعود بصورة رئيسية إلى قيام معارضى «حزب العدالة والتنمية» فى الانتخابات البلدية الأخيرة يونيو ٢٠١٩، بإيقاظ مشاعر المظالم التنافسية وتوظيف ملف اللاجئين السوريين فى المعركة الانتخابية، وذلك من خلال التركيز على أخطاء وتجاوزات بعض السوريين، والتذرع بضرورة الحفاظ على الطابع التركى لإسطنبول، وأدى ذلك إلى انتشار شعارات ولافتات عنصرية تدعو إلى طرد السوريين من المدينة.
الموثق حتى الآن؛ فى هذا التغير الجديد للاستراتيجية التركية، يصل لنحو ٦٠٠٠ حالة ترحيل إلى سوريا، بما فى ذلك ترحيل عدد من حاملى تصاريح «الإقامة المؤقتة». والمعلن أيضًا أن جهاز الأمن التركى «MIT» قدم لإدارة الهجرة التابعة لوزارة الداخلية، خطة تتضمن إعادة توطين أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين فى بلدات الشمال السورى، خاصة ممن نزحوا إلى تركيا منذ ثمانى سنوات، وجرى التواصل معهم من الجهات الأمنية التركية. وحددت الخطة النطاق الجغرافى لذلك بـ«المنطقة الآمنة»، التى تسعى تركيا إليها مع الجانب الأمريكى والأطراف الفاعلة الأخرى، مثل روسيا وإيران، مع دفع هؤلاء اللاجئين للمطالبة بالحماية التركية المباشرة، تزامنًا مع عمل عسكرى قد يجرى تنفيذه ضد «وحدات حماية الشعب» الكردية!