عبدالوهاب داود يكتب: "السيدة خديجة".. سيدة المحبة الأولى
للسيدة خديجة بنت خويلد مكانة فى قلبى لا يزاحمها فيها أحد، ولا يقترب منها أحد، والحقيقة أننى شخصيًا لم أكتشف أسرار هذه المحبة حتى هذه اللحظة، وما زالت مفاتيحها تمثل لغزًا غامضًا بالنسبة لى، لا أحاول فك رموزه، أو الوصول إلى أسراره، وكلما اقتربت من سيرتها، زادت المحبة، وامتلأ القلب بالطمأنينة والسلام.. حتى صار الاسم وحده مرادفًا للشعور بالأمان وراحة البال، وخلود النفس إلى الهدوء والسكينة. ربما لا يكون متاحًا لمثلى إضافة أى جديد إلى سيرتها أو حياتها، ورحلتها مع الحياة، أو فى صحبة الرسول، عليه صلوات الله وسلامه، لكنها فروض المحبة التى تدفعنى للكتابة عنها والبحث فى مسيرتها، والقراءة عن أفضالها.
عندما أحبت لم تخجل أو تتردد وأرسلت من يبلغ حبيبها عنها ثم انتظرت حتى جاءها بإشارات القبول
يقول بعض المحدثين من الباحثين إن ما فعلته السيدة خديجة من الإعلان عن رغبتها فى الزواج من رسول الله، وهو يصغرها بخمسة عشر عامًا، لم يكن شأنها وحدها، وإنه كان أمرًا معروفًا أو واردًا بين سيدات قريش، خصوصًا أثريائها، ويقول آخرون إنه يوجد اختلاف بين الطوائف الإسلامية حول زواجها، إذ يذهب أهل السنة إلى أنها تزوجت قبل النبى مرتين، بينما يعارض ذلك الشيعة، ويذهبون إلى أن الرسول هو أول أزواجها وأنها زوجته البكر الأولى.. والحقيقة أن كل ذلك لا يعنينى بالمرة، أو ليس هو ما أظن أنه ربما يكون مقصد القارئ لحكاية السيدة خديجة، رضوان الله عليها، مع الحياة ومع نبى الإسلام، عليه صلوات الله وسلامه، فما يعنينى هنا مما يروى عنها، هو تجسيدها معانى المحبة ومراعاة الحبيب، كما استقر فى قلبها وضميرها، وكما عرفتها وأورثتها لكل من حملن اسمها من بعدها، فكان لهن من اسمها نصيب، وكان لى منه، صغيرًا، حماية منعت عنى حتى توجيه اللوم، أو أبسط أشكال توجيه اللوم أو العقاب.
ما يعنينى أنها كانت تعرف أن المحبة هى كنز العارف، لذا فعندما أحبت لم تخجل، ولم تتردد، وأرسلت من يبلغ حبيبها عنها، وعما ينتظره منها، ثم انتظرت حتى جاءها الرسول بإشارات القبول.. أحبت فعرفت الطريق إلى قلب محبوبها، وسارعت إليه دون خجل أو وجل أو أى إشارات للتمنع، وهى التى تتفق كتب التراث على أنها نشأت فى بيت كريم مترف. فكان والدها زعيم بنى أسد بن عبدالعزى، وإليه ينتهى الفضل والكرم والسيادة بين قومه وعشيرته، يحترمون رأيه، ويقدرونه، حتى سميت ابنته بالطاهرة، وهو اللقب الذى عرفت به قبل الإسلام، فتنافس على الزواج بها شباب العرب، ولكنها آثرت الانصراف إلى إدارة شئون تجارتها ومالها، فكانت تستأجر الرجال ليتاجروا لها، وكانت دائمة التدقيق والتمحيص فيمن تختاره، ومما يروى أن أبا طالب بن عبدالمطلب عم الرسول هو من أشار عليه بالعمل فى تجارة خديجة وقال له، وقد كان فى كفالته: «أنا رجل لا مال لى، وقد اشتد الزمان علينا، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالًا من قومك فى عيراتها، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك»، فبلغ خديجة ما كان من محاورة محمد وعمه، فأرسلت إليه فى ذلك، وقالت: «أنا أعطيك ضعف ما أعطى رجلًا من قومك»، فقال أبوطالب: «هذا رزق قد ساقه الله إليك»، فخرج مع غلامها ميسرة، الذى أوصته أن يقوم على خدمته، وأن يرصد لها أحواله، فلما قدما بصرى من الشام، نزلا فى ظل شجرة، فقال نسطور الراهب: «ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبى»، ثم قال لميسرة: «أفى عينيه حُمرة؟» قال ميسرة: «نعم لا تفارقه»، قال: «هو نبى، وهو آخر الأنبياء»، فلما رجعا بأضعاف ما كانت تتوقعه من أرباح، حكى لها ميسرة ما كان من أمره، وما شاهده بعينيه من تتبع السحاب له يظلله وقت اشتداد الحر، وغيرها من حكايات، ما أخذ بتفكيرها وشغل بالها، فأفضت بسرها لصديقتها نفيسة أخت الصحابى يعلى بن أمية وقالت: «يا نفيسة إنى أرى فى محمد بن عبدالله ما لا أراه فى غيره من الرجال، فهو الصادق الأمين وهو الشريف الحسيب وهو الشهم الكريم، وهو إلى ذلك له نبأ عجيب وشأن غريب، وقد سمعت ما قاله غلامى ميسرة عنه، ورأيت ما كان يظلله حين قدم علينا من سفره، وما تحدث به الرهبان عنه، وإن فؤادى ليكاد يجزم أنه نبى هذه الأمة»، فقالت نفيسة لخديجة: «تأذنين وأنا أدبر الأمر»، قالت نفيسة: فأرسلتنى خديجة إليه دسيسًا أعرض عليه زواجها فقبل، وقيل بعثت خديجة إلى الرسول فقالت له: «يا ابن عم، إنى قد رغبت فيك لقرابتك ووسطتك فى قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك»، ثم عرضت عليه نفسها، فكلّم أعمامه أبا طالب والعباس وحمزة، فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه، وتم الزواج بعد رجوع محمد من الشام بشهرين، فأولم عليها ونحر، وأطعم الناس، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.
أحاطت النبى بكل رعاية وعناية واهتمام وحين أنزل الله وحيه عليه كانت أول من صدقته
عاشت السيدة خديجة مع الرسول خمسة عشر عامًا قبل بعثته، وكانت هى السنوات التى شغلت فيها بإنجاب أولادها باستثناء عبدالله الذى ولد بعد البعثة، وتتفق كتب التراث على أنه عندما حُبب إلى الرسول الخلوة، صار يتجه لغار حراء، يعتكف متأملًا، ويتعبد متبتلًا، فأحاطته بكل رعاية وعناية واهتمام، وكانت هى المعين الداعم، فكانت تعد له ما يحتاجه من طعام وشراب، تُجهزه قبل خروجه، وتحمل إليه إن طالت غيبته ما يكفيه من مؤونة، وفى بعض الأحيان تصحبه فى خلوته، تخدمه وتؤنسه وتسقيه وتطعمه، وقال ابن حجر العسقلانى: «كانت حريصة على رضاه بكل ممكن، ولم يصدر منها ما يغضبه قط».
وروى الفاكهانى عن أنس بن مالك، قال إن النبى كان عند أبى طالب، فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة فأذن له، وبعث بعده جارية له، يقال لها نبعة، فقال لها: «انظرى ما تقول له خديجة»، قالت نبعة: فرأيت عجبًا، ما هو إلا أن سمعت به خديجة، فخرجت إلى الباب، فأخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها، ثم قالت: «بأبى وأمى، والله ما أفعل هذا لشىء، ولكنى أرجو أن تكون أنت النبى الذى ستبعث، فإن تكن هو، فاعرف حقى ومنزلتى، وادع الإله الذى يبعثك لى»، قالت: فقال لها: «والله لئن كنت أنا هو، قد اصطنعت عندى ما لا أضيعه أبدًا، وإن يكن غيرى، فإن الإله الذى تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدًا».
ولما أصبح فى عقده الرابع بدأت تظهر له المبشرات، يسمعها أو يراها، يقظة، أو منامًا، مثل سماعه نداء يأمره بستر عورته، حين كان يحمل الحجارة لبناء الكعبة، ومن ذلك ما رواه عمرو بن شرحبيل أن الرسول قال لخديجة: «إنى إذا خلوت وحدى سمعت نداء وقد والله خشيت أن يكون هذا أمرًا»، فقالت: «معاذ الله ما كان الله ليفعل بك، فوالله إنك لتؤدى الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث»، وكان الرسول كلما رأى رؤيا قصّها على خديجة، فقد روى محمد بن يوسف الصالحى الشامى أن الرسول «رأى مرةً فى منامه أن سقف بيته نُزعت منه خشبة، وأدخل فيه سلم من فضَّة، ثم نزل إليه رجلان، فأراد أن يستغيث، فمُنع من الكلام، فقعد أحدهما إليه، والآخر إلى جنبه، فأدخل أحدهما يده فى جنبه، فنزع ضلعين منه، فأدخل يده فى جوفه، ورسول الله يجد بردهما، فأخرج قلبه فوضعه على كفه، فقال لصاحبه (نعم القلب قلب رجل صالح)، فطهر قلبه وغسله، ثم أدخل القلب مكانه، وردَّ الضلعين ثم ارتفعا، ورفع سلّمها، فإذا السقف كما هو، فذكر ذلك لخديجة فقالت له: أبشر فإن الله لا يصنع بك إلا خيرًا».
وعندما أنزل الله وحيه على النبى كانت أول من صدقته، وذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل الذى بَشَّره بأنه نبى الأُمّة، وظلت بعد ذلك معه صابرة مثابرة، حتى وقع حصار قريش لبنى هاشم وبنى المطلب فى شِعب أبى طالب، فالتحقت بزوجها، وعانت ما عاناه ثلاث سنين، ولكنها مرضت بعد فك الحصار، وما لبثت أن توفيت قبل هجرة الرسول بثلاث سنين وعمرها خمس وستون سنة، وكان مقامها مع الرسول أربعًا وعشرين سنة وستة أشهر.
«ستى خديجة».. نصيبى الخاص من خير نساء العالمين
الحقيقة أنه على كل ما ذكرت، فالمؤكد بالنسبة لى أن مثل السيدة خديجة ليست بحاجة إلى أسباب أو مبررات للكتابة عنها وعن محبتها وفضلها، بل ربما لا أكون مبالغًا إن قلت إن آثار محبتها تمتد إلى كل من فازت باسمها، فكان لها من سيرتها وموقعها من القلوب نصيب. فهى، رضى الله عنها، صاحبة الفضل وذات الأيادى البيضاء السخية، التى لم تبخل بمال، ولم تمتنع عن بذل جهد، ولا مشاعر. هى من قال عنها رسول الله، فيما رُوى عنه: «ما أبدلنى الله عز وجل خيرًا منها، قد آمَنت بى إذ كفر بى الناسُ، وصَدقتنى إذ كَذبَنى الناسُ، وواسَتنى بمالـها إذ حَرمَنى الناسُ، ورزقَنى الله عز وجَلَّ ولدها إِذ حرمَنى أولادَ النساءِ»، وروى أبوهريرة أنه قال: «خير نساء العالمين أربع، مريم بنت عمران، وابنة مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد»، وأتى جبريل إلى النبى مرة فقال: «يا رسول الله، هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هى أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها عز وجل ومنى، وبشرها ببيت فى الجنة من قصب، لا صخب فيه، ولا نصب»، بينما روى عن عبدالله بن عباس أنه قال: «كانت خديجة بنت خويلد أول من آمن بالله ورسوله، وصدق محمد رسول الله فيما جاء به عن ربه، وآزره على أمره، فكان لا يسمع من المشركين شيئًا يكرهه، من رد عليه، وتكذيب له، إلا فرَّج الله عنه بها، تثبته وتصدقه وتخفف عنه، وتهوّن عليه ما يلقى من قومه».
وربما كان من المناسب أن أذكر هنا أننى لا أعرف بالضبط متى بدأت رحلة افتتانى باسم «خديجة»، وإن كنت أحمل فى القلب من حكايات المحبة لصاحبة هذا الاسم الكثير والكثير.. بعضها يعود إلى سيدة طفولتى الأولى، بعد أمى بالطبع، إلى «ستى خديجة»، والحقيقة أنه رغم أنها لم تكن جدتى المباشرة، بل كانت شقيقة جدى لأمى، فإنها كانت وما زالت الأكثر حضورًا فى ذاكرتى، وصاحبة الذكريات الأكثر جمالًا، وعذوبة.. ربما لم أعد أذكر، بصورة دقيقة، ملامح وجهها الأبيض المفعم بالطيبة، لكننى أذكر جيدًا ما كنت أشعر به من أمان وسكينة كلما اقتربت خطواتى الصغيرة من باب منزلها الواسع الواقع على مشارف القرية المجاورة لقريتنا.
كانت الرحلة إلى منزلها غير القريب، أقرب إلى المخاطرة التى لم يكن يتوقعها الجميع، خصوصًا لطفل لم يكمل عامه الثالث فى الدنيا، تعلم المشى منذ أشهر معدودات، ولكن لأن الحياة فى قرى مصر لها طبيعة خاصة ومذاق آمن، فقد كان من حظى أن أبدأ حياتى بتعلم الطريق إلى منزل «ستى خديجة»، التى بكيت يوم رحيلها كما لم أبك أحدًا قبلها، فتغمرنى بمحبتها، وحنانها، وأمانها الذى لا حدود له.
لا أذكر على وجه التحديد متى كانت رحلتى الأولى إلى منزلها، لكننى أذكر ما أثاره غيابى من قلق وخوف فى قلب أمى وبين إخوتى، كما أذكر تصديها لكل محاولات عقابى، أو حتى توجيه اللوم، عندما اكتشفوا وجودى بمنزلها البعيد، وأذكر ملامح الرضا التى ارتسمت على وجه أمى وهى ترانى أحتمى بحضن عمتها الأحن والأطيب والأكثر قدرة على الاحتواء، والتى ردت عنى كل محاولات العقاب بحسم وفرح، فصارت رحلتى إلى منزلها طقسًا يوميًا لا يستطيع أن يمنعنى عنه أحد، وصار لاسم «ستى خديجة» وقع ترتاح له نفسى ويطمئن له قلبى، حتى زادت واتسعت المحبة، وتأصلت مع معرفتى بأصل الاسم وجذوره وحكايته، ومع إيمانى بمقولة العرب القدماء «لكل امرئ من اسمه نصيب»، فما بالك بأن يكون أصل الاسم راجعًا إلى السيدة خديجة بنت خويلد، أم المؤمنين، وأولى زوجات الرسول عليه صلوات الله وسلامه والأحب والأقرب إلى قلبه. فهى أم أبنائه زينب، ورقية، وأم كلثوم، والقاسم، وفاطمة الزهراء، وعبدالله، وهى أول من آمن به، وأول من ثبت على دينه وأول من توضأ وأول من صلى خلفه.
وتحكى كتب التراث أنه حين علم جبريل عليه السلام النبى الوضوء والصلاة، قبل فرضها، صلت معه فى نفس اليوم، ومما يروى أن جبريل ظهر للنبى أول ما أوحى إليه فى أحسن صورة وأطيب رائحة وهو بأعلى مكة، فقال: «يا محمد، إن الله يُقرئك السلام، ويقول لك أنت رسولى إلى الجن والإنس، فادعهم إلى قول لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله»، ثم ضرب الأرض برجله فانبعثت عين ماء، فتوضأ منها جبريل ورسول الله ينظر إليه، ليريه كيفية الطهور للصلاة، ثم أمره أن يتوضأ كما رآه يتوضأ، ثم قام جبريل يصلى مستقبلًا الكعبة، ثم أمره أن يصلى معه فصلّى ركعتين، ثم عُرج به إلى السماء ورجع إلى أهله، فسار حتى أتى خديجة فأخبرها، فغشى عليها من الفرح، ثم أخذ بيدها حتى أتى بها زمزم، فتوضأ حتى يريها الوضوء، ثم أمرها فتوضأت، وصلى بها كما صلى به جبريل عليه السلام، ورَوى الإمام أحمد بن حنبل فى مسنده عن إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندى عن أبيه عن جده قال: «كنت امرءًا تاجرًا، فقدمت الحج، فأتيت العباس بن عبدالمطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان امرءًا تاجرًا، فوالله إننى لعنده بمنى إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس، فلما رآها مالت يعنى قام يصلى، قال: ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذى خرج منه ذلك الرجل، فقامت خلفه تصلى، ثم خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء، فقام معه يصلى، قال: فقلت للعباس: من هذا يا عباس؟، قال: هذا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب ابن أخى، قال: فقلت: من هذه المرأة؟، قال: هذه امرأته خديجة ابنة خويلد، قال قلت: من هذا الفتى؟، قال: هذا على بن أبى طالب ابن عمه، قال فقلت: فما هذا الذى يصنع؟، قال: يصلى».