معضلة الوجود الإيرانى المسلح فى سوريا
بعد العديد من جولات الحوار، أهمها الثلاثى الذى جرى مؤخرًا فى القدس، ممثلًا بالجانب الأمريكى والروسى والإسرائيلى، لبحث ما يمكن عمله أو ترتيبه فيما يخص سوريا فى مستقبلها القريب. وقبل هذا الاجتماع المهم كانت جولات سوتشى وأستانا هى الأخرى معنية بالطبع بمثل تلك الأطروحات، وحاولت تقديم العديد من المقاربات التى يمكنها أن ترتب فوضى الوجود المسلح، ومن ثم تحديد مناطق أو مساحات النفوذ للدول التى تدعم هذه الأشكال المتنوعة من التمترس على الأرض.
فى القدس ربما بدا الأمر أكثر تحديدًا وانكشافًا للمعادلات الواجب بحثها، التى تمثلت فى الوجود العسكرى الأمريكى بمهمة قيادة التحالف الدولى لمحاربة «داعش»، يقابله الوجود العسكرى الروسى بدعوة رسمية من النظام السورى، للتمركز بقواعد عسكرية تقدم المساعدة العملياتية للجيش السورى، فى تدعيم السيطرة على المناطق التى يتم استردادها من الميليشيات والتنظيمات الإرهابية المسلحة. وعبر الجو توجد إسرائيل بجهد عملياتى استخباراتى وعسكرى، البعض منه تمثل فى «طلعات جوية» نفذت عمليات قصف، وآخر عبر الإطلاق الصاروخى من داخل إسرائيل.
فى اجتماع القدس، لم يبد أن هناك خلافًا جوهريًا بين تلك القوى الثلاث، فى وجودها المباشر وحتى فيما يخص إسرائيل بضرورة الحفاظ على الحرم الآمن الذى يؤمن لها حدود «الجولان المحتل»، إنما برزت الخلافات الجوهرية أو ما يمكن اعتباره من المعضلات الحقيقية التى وقفت أمام الأطراف، ولم يبد أن هناك حلولًا قد جرى التوصل إليها بشأن الوجود الإيرانى، ممثلًا فى النفوذ السياسى الذى تملكه على دمشق، فضلًا عن الوجود الميليشياتى المسلح على الأرض، أيضًا الوجود التركى العسكرى عبر وحدات الجيش النظامى، وعبر الميليشيات الإرهابية التى تمثل أجندة المصالح التى ترفعها أنقرة فى وجه الجميع، هاتان المعضلتان بقدر تعقيدهما، تتقاطعان بشكل كبير مع مصالح ورؤى الأطراف الثلاثة الذين جلسوا فى القدس، وفى غيرها مما يجرى تحت السطح، لكن الوصول إلى توافق فيهما لا يبدو أنه قريب المنال، على الأقل حتى الآن.. وسنبدأ اليوم بتناول ملامح من المعضلة الأولى، وهى الوجود الإيرانى، لتناول المعضلة التركية وتفاصيلها فى جزء قادم بمشيئة الله.
نموذج الاشتباك والاعتراف الأمريكى بكون إيران باتت تمثل معضلة حقيقية فى سوريا عبّرت عنه بوضوح صحيفة «وول ستريت جورنال»، عندما نشرت مؤخرًا أنه لن يكون سهلًا إخراج إيران من سوريا، مشيرة إلى أن القوة الجوية الإسرائيلية لن تكون كافية لمثل هذه المهمة، وليس من الواضح فيما إذا كان الروس يمكنهم فعل ذلك، حتى لو كانوا على استعداد.
جاء ذلك فى مقال للباحث الأمريكى «جوناثان سباير»، أورد فيه أيضًا أن إسرائيل نفذت ما لا يقل عن «٢٠٠ غارة جوية» ضد أهداف إيرانية فى سوريا منذ عام ٢٠١٧ فقط، وهى تهدف، حسب رئيس الموساد «يوسى كوهين»، إلى جعل إيران تتوصل إلى استنتاج مفاده أنه لا يمكن مواصلة مشروعها فى سوريا.
ورغم أن الباحث يصف سيطرة إسرائيل الاستخبارية الواضحة فى سوريا بأنها «مثيرة للإعجاب»، وكذلك يثنى على براعة طلعاتها الجوية، فإن عملها فى النهاية يقتصر على بعض المهام، فالمشروع الإيرانى فى سوريا واسع وعميق ومتعدد الأوجه، وبعض عناصره معرضة بشدة للقوة الجوية، لكن الكثير الآخر ليس كذلك.
ويشير الباحث إلى أهم وأخطر ما تم رصده على الأرض، فى جهد إيران الواسع من أجل دمج الهياكل الخاضعة لقيادتها مع الدولة السورية نفسها، والهدف كما هى الحال فى لبنان والعراق، إزالة أى حدود يمكن تحديدها بين العنصر الذى تسيطر عليه طهران وهيكل السلطة المحلى، فإيران تستهدف بوضوح زرع شكل من أشكال «الدولة العميقة» الخاضعة لسيطرتها، ضمن آلية الدولة الحالية.
هذا يتمثل فى الجهد الإيرانى فى إنشاء ميليشيات تم تجنيدها من بين السكان السوريين، وتشمل هذه التشكيلات تنظيمات مثل «الرضا» و«الباقر» و«الكتيبة ٣١٣»، حيث يتم تجنيد هذه الميليشيات وتدريبها من قِبل «الحرس الثورى» الإيرانى، بالتعاون مع حزب الله اللبنانى فى طهران. وأيضًا مع «قوة الدفاع الوطنى» وهى الهيئة الرئيسية داخل سوريا، حيث تتشكل مما يقارب «١٠٠ ألف شخص»، تتعقبهم وتجندهم قوات الحرس الثورى الإيرانى لتضمن ولاءهم الكامل لها، رغم أنها تشكل جزءًا من قوات النظام السورى.
ويبقى العنصر الثالث وهو الأكثر عمقًا، ويتمثل فى دعم وبناء التحالف داخل القوات العسكرية للنظام بشكل مباشر، فقد أقام الحرس الثورى الإيرانى علاقات مباشرة وثيقة مع بعض العناصر الأكثر قوة داخل هذه القوات، ولعل أبرزها مع «الفرقة الرابعة» التى يقودها ماهر الأسد، الشقيق الأصغر للرئيس بشار الأسد.
هناك العديد من مظاهر التنافس الروسى الإيرانى على الساحة السورية دون شك، خاصة فيما يتعلق بالنفوذ العسكرى، فروسيا هى الأخرى استطاعت أن تكون لها قوات تابعة من ضمن قوات النظام، أشهرها وأكبرها «قوات النمر» التابعة للعقيد سهيل الحسن، وربما انكشف فى بعض المرات حجم هذا التنافس، عندما وقع فى يناير الماضى اشتباك نيرانى شرس بين «قوات النمر» و«الفرقة الرابعة» علانية فى محافظة حلب.
وبعدها لم تتوقف روسيا عن السعى من أجل تعيين ضباط مرتبطين بمصالحها الخاصة، خاصة من داخل تشكيلات تتماشى مع الإيرانيين، وتركز حملة «مكافحة الفساد» الروسية على الدائرة المحيطة بماهر الأسد، فى محاولة لإحراز السبق، خاصة وهى ترقب عن كثب الجهود المبذولة لتشييع المواطنين السوريين السنة، وما يرافق ذلك من عمليات واسعة لاستيطان مواطنين شيعة من غير السوريين، فى أماكن تم تهجير مواطنيها السنة بفعل سنوات الحرب، وهذه بالخصوص تجرى فى محيط دمشق العاصمة وحول المزارات الشيعية الشهيرة.
هناك العديد من المكونات الإيرانية، أو التى يجرى تشغيلها ودعمها من قِبل طهران، مما يعكس فعليًا عمق هذا المشروع وتعقيداته، هذا نستكمله الأسبوع المقبل باذن الله.