مائة عام
قد تنتصر على الاحتلال وتطرد المستعمر ظاهريًا وتفرح بالعلم والنشيد وأنت ناقص الأهلية أو الحرية ما دام ابن البلد غائبًا عن تقرير شئون بلاده
بعد أيام وجيزة، ستحل الذكرى المئوية لواحدة من أهم وقائع تاريخ مصر المعاصر، واقعة تركت، وما زالت تترك، تأثيرًا واضحًا على أفكار وتوجهات الدولة والمجتمع. إنها الثورة الوطنية الكبرى، التى تفجّرت فى أرجاء البلاد، فى مارس عام ١٩١٩، وشملت مصر من أقصاها إلى أقصاها، وزلزلت الاحتلال البريطانى، والنظام الملكى، وتركت بصمات واضحة فى كل شئون الحياة، من السياسة إلى الاقتصاد، ومن الثقافة إلى الأوضاع الاجتماعية والطبقية، وطرحت أفكارًا ومفاهيم كثيرة، ما زالت مطروحة حتى الآن، وما الجدل الراهن المثار حول «التعديلات الدستورية» المقترحة الأخيرة، إلا ظل من ظلال هذه الحديقة الوارفة، وأثر من آثارها العميقة المتعددة.
يكفى أن نلقى «نظرة طائر» على فنوننا وثقافتنا حتى ندرك فضل هذه الثورة، فأغلب القامات الإبداعية الكبيرة، التى امتد تأثيرها إلى ربوع الوطن العربى كله، ولا يزال، هى من نتائج هذه الثورة، ومنها على سبيل المثال سيد درويش، محمود مختار، وطه حسين، توفيق الحكيم، عباس العقاد، أحمد أمين، محمد حسين هيكل، أم كلثوم، محمد عبدالوهاب، على مصطفى مشرفة، حسن فتحى، سليم حسن، لويس عوض، محمد شفيق غربال، محمد مندور، طلعت حرب، سلامة موسى، هدى شعراوى، درية شفيق.. إلخ إلخ.
ويطول بالطبع الحديث عن هذه الثورة، ويضيق المجال المتاح هنا عن تغطية أبعادها بشكل كامل، غير أنه من المفيد أن نشير إلى نقاط ثلاث مهمة للغاية فى هذا السياق: الأولى: أنها «اللحظة التاريخية» التى عكست عمق تآلف النسيج الوطنى المصرى، ومناعته، وعصيانه على أى محاولة لتمزيقه، إذ لم تصل «وحدة الهلال مع الصليب» إلى ما وصلته فى تلك الثورة، حيث توحَّدت مكونات الأمة المصرية توحيدًا تلقائيًا، فى ظل ترسيخ معنى ومضمون شعار: «الدين لله والوطن للجميع»، وطرح مفهوم «المواطنة» ومقوماتها، واختلاط دم المصرى المسلم والمسيحى فى الصراع ضد الاحتلال والاستغلال والفساد والاستبداد.
والثانية: لقد أبانت هذه اللحظة عن الرباط الموضوعى للكفاح من أجل الاستقلال الوطنى «طرد الاحتلال»، والديمقراطية «الدستور»، إذ لم يكن مُمكنًا الفصل بين هذين الهدفين، فهما وجهان لعملة واحدة، ولمفهوم واحد ما زالت توابعه تترى حتى اليوم، فقد تنتصر على الاحتلال، وتطرد المستعمر ظاهريًا، وتفرح بالعلم والنشيد، وأنت ناقص الأهلية أو الحرية، ما دام ابن البلد غائبًا عن تقرير شئون بلاده، وتحكمها زمرة تابعة، على نحو ما كان قائمًا آنذاك، ولعلنا لا ننسى أن حزب الوفد، الذى تأسس فى خضم الثورة وعبّر عن تطلعاتها، لم يحكم إلا ست سنوات ونيفًا، على امتداد «الفترة الليبرالية»، التى شهدتها مصر من ١٩١٩ حتى ثورة يوليو ١٩٥٢، ودائمًا ما كان يتم الانقلاب عليه من القصر والأحزاب التابعة، بل على دستور ١٩٢٣ الذى صدر مُعبرًا عن توازنات الثورة.
أما النقطة الثالثة، فهى أن نتائج هذه الثورة، ولأسباب عديدة، لم ينلها عموم جمهور الشعب الذى أطلقها وضحى من أجلها، أى العمال والفلاحين، والطبقات الفقيرة والكادحة، وإنما استولت عليها طبقة الأغنياء والإقطاعيين والبرجوازية الصاعدة، ولم ينج حتى حزب الوفد من هذا المصير، رغم عِظم التضحيات التى قدمها «الشعب» فى هذه الثورة، وأرتال الشهداء الذين نعاهم العميد «طه حسين» قائلًا: «رحم الله شهداء سنة ١٩١٩، لقد صَغُرت حياتهم فى نفوسهم لنكبر نحن فى نفوسنا. لقد ماتوا فأحيانا موتهم. رحم الله الشهداء، لم يكن أحد منهم يفكر فى أحد منا، بل لم يكن أحد منهم يعرف أحدًا منا، إنما كانوا يفكرون فى مصر، ويعرفون مصر، ويبذلون نفوسهم فى سبيل مصر».