عبدالوهاب داود يكتب: «التركة الملعونة».. اقرأوا تصحّوا
لسنوات طويلة لا يتوقف الحديث عن مشكلة فى الإعلام المصرى، تصل إلى حد الأزمة، يتحدث عنها «اللى يعرف، واللى ما يعرفش، اللى له فيه، واللى مالوش»، فكلنا «بسم الله ما شاء الله» أصبحنا خبراء فى كل شىء، من علوم الذرات والفلك، إلى فنون «سلق البيض» و«تقشير البطاطس»، نعشق الزيطة والفتوى والتنظير بعلم، أو بغير علم، وكأننا ملكنا زمام الحقيقة القاطعة، واليقين المطلق.
وبقدر سعادتى بكتاب «التركة الملعونة.. كتاب الأسرار»، الذى يكشف فيه صديقى الكاتب والإعلامى، محمد الباز، تفاصيل أزمة الإعلام منذ بدايتها وحتى لحظتنا الراهنة، واضعًا يده على مواطن الخلل والإجراءات الممكنة للعلاج، بقدر ما أشفقت عليه، لما عاينته بنفسى من حملات صاحبت الإعلان الأول عن الكتاب، كل هدفها التشويش ولفت الأنظار بعيدًا عن جوهر الموضوع أو حقيقة المشكلة، ولما أعرفه عن طبيعة الحملات المضادة فى مصر، وكيفية صناعتها وإدارتها، والتى يمكن أن تصل إلى مراحل يصعب التنبؤ بها، أو تصديقها.
إلا أن ما يطمئننى فى هذه الحالة، ما أعلمه جيدًا عن طبيعة صديقى المتعالية عن الدخول فى معارك صغيرة أو هامشية، وقدرته الفائقة على تجاهل كل من يحاولون جرّ انتباهه بعيدًا عن معركته الأهم، لصالح الأجيال المقبلة، وحقها فى المعرفة، والحياة فى دنيا أفضل من تلك التى مررنا بها، والذى لا يتوقف عن إثارة دهشتى، بجرأته، وقدرته على تجاوز أى عقبة تقف فى طريق شغفه بالكتابة التى لا تبتغى غير ما يؤمن به من قناعات وأفكار، فأقرأ كل ما يكتب بنفس الشغف، ونفس الدهشة.
والثابت أنه قبل «التركة الملعونة» لم يجرؤ أحد على الكلام عن تفاصيل الخلل الذى أصاب صناعة الإعلام فى مصر، بمثل هذا الكم من المعلومات والحقائق الموثقة، والتفاصيل الدقيقة، بل إن أحدًا لم يحاول «إعادة الثور الهائج إلى حدوده المهنية والقانونية، وربما الإنسانية أيضًا».. من هنا تبرز أهمية ذلك الكتاب الذى صدر مع بداية الدورة الخمسين لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، عن دار «كنوز للنشر والتوزيع»، والذى أتوقع أن تنفد طبعته الأولى خلال أيام، فكلنا فى حاجة ماسة إلى إدراك موطن الأزمة، حكومةً وشعبًا ومعارضة، كلنا بحاجة إلى إصلاح المنظومة الإعلامية التى يعرف الجميع أهميتها وقوتها وقدرتها على التأثير، كلنا بحاجة إلى إصلاح المهنة «التى هى فى أساسها واحدة من أدوات الأمن القومى».
والحقيقة أنه لا أحد يجرؤ على مثل هذه الكتابة التى تصل إلى موطن الخلل، فتعريّه أمام الجميع، لا تدعى نبوة، ولا بطولة، لكنها لا تخجل من كشف الحقيقة كاملة، بلا زيف، ولا تجميل، كتابة لا يجرؤ عليها سوى قلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
«التركة الملعونة.. كتاب الأسرار» ليس مجرد كتاب للتصفح العابر، أو مادة للنميمة السياسية، وحواديت المقاهى، بل وثيقة، وشهادة من قلب كواليس صناعة الإعلام فى مصر، وهو كشف حساب لكل من فسدوا، وأفسدوا الضمائر، والعقول، وكلهم أحياء يُرزقون، يملكون القدرة على الرد، والنفى، بدلًا من حملات التشويه، وترويج الأكاذيب، تلك التى يسهل الرد عليها، والتعامل معها بالمثل، ولكننى أعرف جيدًا أنها لن تلقى أى اهتمام من صديقى المتعالى على «الصغائر»، المعتاد على عدم الالتفات، و«تجاهل التافه من الكلام».
فى مقدمته للكتاب الأهم فى مصر ٢٠١٩، يقول محمد الباز: «لن ألومك إذا بحثت فى هذا الكتاب عن سر أو فضيحة، ستجد ما تبحث عنه حتمًا، لكن نصيحة منى، لا تهتم بأن تشمت أو تفرح فيمن تعتقد أنك تكرههم من الإعلاميين المصريين، فما كتبته هنا أكبر من هذا بكثير»، ويقول: «هنا ستجد عالمًا خفيًا ومخفيًا يعيش فيه الإعلاميون المصريون، وهو العالم الذى أفسدوه على أنفسهم، قبل أن يفسده عليهم الآخرون»، ويقول: «اقتربتُ وكتبتُ وكشفتُ كثيرًا مما كان مستورًا.. كانت لدىّ الجرأة لأفعل ما فعلت.. فهل لديك القدرة لتقرأ؟».
أيها الأصدقاء.. ليس مطلوبًا أن تصدقوا كل ما تقرأون، أو تسلموا عقولكم لكل ما تبثه أى وسائل من آراء، أو حكايات، فقط علينا جميعًا أن نقرأ، ونعرف، ثم نحاول معًا أن نفرز، ونفهم.. وقتها فقط يمكننا أن نصل إلى أرض تليق بنا، وبأبنائنا، وأحفادنا.. فاقرأوا تصحّوا.