الرئيس الملهم
فى ظل أجواء الربيع الغربى وما يحدث فى أوروبا الآن فى أيام مثل هذه.. وليالٍ ظلماء ملتبسة مثل تلك.. نفتقد حتمًا أن ينير لنا البدر الطريق.. ويرشدنا إلى بوصلتنا التى ضاعت منا أو أضعناها.. نحن نفتقد حتمًا من يلهمنا ويرشدنا للطريق وذلك الملهم أراه مجسدًا فى شخص «خوسيه موخيكا»، أو الـ«بى بى» كما اشتهر وكما يحب أن يناديه شعبه ومحبوه.. وهو ذات الاسم الذى اختاره واحد من أكبر مخرجى العالم، وهو المخرج الكرواتى العالمى الكبير «أمير كوستاريكا» ليكون اسمًا لفيلمه التسجيلى «le pepe» الذى هو فى الأساس حوار مصور تلقائى طويل أجراه كوستاريكا مع أبسط وأفقر وأنبل رئيس فى العالم، وهو رئيس أوروجواى السابق «خوسيه موخيكا» الذى انتخب رئيسًا لبلاده فى مارس من عام ٢٠١٠، وظل رئيسًا حتى عام ٢٠١٥ وصنفت عالميًا بلاده فى عهده بأنها الدولة الأقل فسادًا فى أمريكا اللاتينية.
بدأ الـ«بى بى» حياته يساريًا ثوريًا متأثرًا بثورة كوبا وقابل «تشى جيفارا» خلال مسيرته فى العمل الثورى المسلح، وأصيب بالرصاص أكثر من مرة وسجن فى عام١٩٧٣ لمدة ١٢عامًا فى حبس انفرادى هو ورفاقه.. كل فى زنزانته يكتم أنينه وحيدًا فى الليل لا يرى النور أو أى بصيص أمل يلوح فى الأفق.. فقط هى الجدران وسجانوها.. وتمر الأيام والسنون لتكلل مسيرة موخيكا بانتخابه رئيسًا لبلاده.. لكن هذا الرئيس.. لم يكن رئيسًا للأغنياء فقط، كما ينعت الفرنسيون رئيسهم الحالى الرئيس الفرنسى الشاب إيمانويل ماكرون المنحاز للسياسات الرأسمالية التى لا تلقى بالًا لأحوال المواطنين وتحديدًا الفقراء منهم.
لم يعش «خوسيه موخيكا» رئيس الأوروجواى الملهم ولو ليوم واحد فى القصر الرئاسى.. وآثر أن يعيش فى بيته الريفى.. حيث يطهو الطعام بنفسه لكلبه.. ويشترى لوازمه بنفسه.. ويسير مطمئنًا فى الشوارع والطرقات بلا حراسة.. لأنه عدل فأمن، تلك هى المعادلة العادلة يا سادة، تلك هى منظومة القيم وطريقة الحكم التى تتوق إليها الشعوب ومواطنوها.. يقود «موخيكا» سيارته «البيتلز» السماوية الشهيرة موديل ١٩٨٧.. ويرفض عرضًا شخصيًا من شيخ عربى ثرى لشرائها بمبلغ مليون دولار، وهى فى حقيقة الأمر لا تساوى فعليًا ولن يتعدى ثمنها الواقعى الـ٣٠٠ دولار.. لكنها عند موخيكا شىء لا يباع ولا يشترى. وصرح «خوسيه» بنفسه قائلًا فى فيلم كوستاريكا التسجيلى: «لا أعلم إن كانت ستباع سيارتى بملايين الدولارات يومًا ما، لكن الشىء الأكيد هو أننى لن أبيعها بكنوز الأرض ولن يشتريها أحد منى ما دمت حيًا».
وهكذا تحولت تلك السيارة البسيطة إلى رمز لنمط الحياة الذى طرحه موخيكا ويرسخ فيه لثقافة تعلى من قدر الأشياء التى لا تباع أو تشترى.. فهو يدرك ولديه فلسفته الخاصة فى الحياة والتى ترى أن هنالك بالفعل أشياء لا تشترى، تلك الحياة المتواضعة لرئيس لم يعش يومًا واحدًا فى قصره.. وأصدر مرسومًا فى عام ٢٠١٤ يتيح فتح بعض أجنحة القصر الرئاسى لإيواء المشردين فى بلاده.. فهم أبناء الشعب.. وبالتالى هم الأولى والأحق بذلك القصر منه.. وهو مجرد موظف يدير لهم شئون بلادهم ويتبرع لهم بـ٩٠ فى المائة من راتبه الشهرى والمقدر بـ١٢ ألفًا و٥٠٠ دولار أمريكى من أجل إعطاء ومنح المزيد من الرفاهة الاجتماعية لشعبه.. رئيس لم يكن لديه أى رصيد فى أى بنك من البنوك داخل أو خارج بلاده ولا ديون له أو عليه.. وخلال فترة ولايته شارك بنفسه فى عملية التنقيب عن جثث وضحايا المعارضة الذين تم اغتيالهم فى سبعينيات القرن الماضى.
يقول موخيكا: «من يعشق المال لا مكان له فى السياسة» وخلال لقاءاته السياسية التى ضمنها المخرج الكبير «أمير كوستاريكا» فى فيلمه بشخصيات مثل «بان كى مون» وبابا الفاتيكان والرئيس الأمريكى أوباما الذى ظهر فى لقائه مع موخيكا وكأنه التلميذ الذى يجلس مندهشًا فى حضرة المعلم الكبير، فخوسيه موخيكا.. بنمط حياته وطرحه السياسى والقيمى الخاص جدًا.. قد وجه أكبر صفعة إلى وجه الإمبريالية وزعماء الدول الكبرى والتوحش الرأسمالى والنمط الاستهلاكى الحقير الذى رفضه خوسيه طوال حياته وناضل نضالًا مشهودًا لمناهضته وعبر عن ذلك فى أكثر من موضع رافضًا ذلك النظام العالمى الجديد.. محتقرًا سياسات الإفقار وإغراق البلاد والشعوب فى ديون وأنماط حياة مميكنة غير صحية بالمرة تصيب الشعوب باليأس والتوتر وجميع أعراض الاغتراب والاكتئاب.. سأله «كوستاريكا» عن جهازه المحمول القديم، فرد عليه بأن كل تلك الأزرار توتره فيكفيه زر واحد ليستخدمه.. أما الأجهزة الحديثة التى تُلمس فيها الشاشات فهو لا يعرفها بالمرة.. بل تجعله يضحك ويتعجب.. فالحياة بالنسبة إليه أبسط من ذلك بكثير.
وهذا ربما ما جعل زوجته وشريكته فى الحياة والعمل السياسى منذ سنوات الدراسة فى الجامعة.. وقصة حبهما وحياتهما معًا التى كانت بالنسبة إليها كاليوتوبيا فى كل شىء، وهذا ما صرحت به فى الفيلم قائلةً «عشت معه يوتوبيا فى الحب ويوتوبيا فى السياسة»! فقد عاشا طويلًا وعانيا كثيرًا ولم بنجبا أطفالًا لذلك العالم المادى القاسى المتوحش أو عندما سأل «كوستاريكا» فى فيلمه ذلك الرئيس المثال والاستثناء عن الشىء الوحيد الذى يندم عليه الآن وهو فى الثمانين من عمره، فرد موخيكا قائلًا: «إننى لم أنجب أطفالًا».
وعلى غرار سلسلة الحوارات التى أجراها السيناريست والمخرج الكبير «أوليفر ستون» مع الرئيس الروسى «بوتين» آثر كوستاريكا الحديث مع «موخيكا» فى هذا التوقيت تحديدًا.. حيث يمضى العالم ويسير نحو طوفان من الأزمات الاقتصادية العالمية الكبرى.. لنتذكر نموذجًا مثل «بى بى».. بما يمثله من طرح مغاير لكل هذا المجون والأيديولوجيات الراديكالية التى تحيط بنا وستقضى حتمًا على الجميع.. إنه الرئيس الملهم.. إنه البدر الذى نفتقده الآن فى ليالينا الظلماء.. بارقة أمل أرسلها لنا كوستاريكا من مهرجان «فينسيا» علها تنقذنا وتخلصنا قبل أن نستفيق على كارثة عالمية جديدة وتأجيج للصراع، وكما كان «مانديلا» زعيمًا وسياسيًا ملهمًا للعالم أجمع أطل علينا من إفريقيا، فها هو خوسيه موخيكا يطل برأسه علينا ويأتينا من أمريكا اللاتينية مناهضًا للولايات المتحدة الأمريكية وسياسات الأمركة وجميع محاولات العولمة والديون والإفقار والعوز والتبعية التى أضرت بالجميع ولم تنفع أحدًا.
فى حين أظهر ذات الفيلم.. الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» كنموذج مختلف أثنى عليه رفاق خوسيه القدامى فى سجون الديكتاتورية.. إذ يرون جميعًا أن بوتين يود محاكاة الثقافة الأوروبية ويقدر الحضارات القديمة ولا يسير على خطى أمريكا التى تريد التحكم فى مصائر الغير وستدمر حتمًا الكوكب وقاطنيه. وعلى غرار فيلم «كوستاريكا».. عرض مهرجان القاهرة السينمائى الدولى فيلمًا روائيًا يتحدث عن معاناة «موخيكا» ورفاقه تحت عنوان «ليلة الاثنى عشر عامًا» التى عاشها هؤلاء فى سجون الديكتاتورية لمدة ١٢ عامًا مرت عليهم وكأنها ليلة ظلماء واحدة أشاحت بسوادها على البلاد وشعبها فاستحق ذلك الفيلم الروائى جائزة المهرجان الكبرى وهرمه الذهبى.. ليزداد يقيننا وإيماننا الراسخ بتفرد وعدالة الرئيس الأسبق لأوروجواى وتقديمه كنموذج فريد لم يتكرر عبر التاريخ سوى لمرات قليلة، المهاتما غاندى ومانديلا وموخيكا رجال ملهمون.. ما زلنا نجتر حيواتهم ونسير على وحى إلهاماتهم علها تنقذنا فى يوم من شرور رأس المال واستعباده لبنى البشر فى كل بقعة من بقاع الأرض، النموذج الذى يطرحه ويقدمه موخيكا هو النموذج الذى تتوق له الشعوب الآن، وتنادى وتطالب به الآن أصحاب السترات الصفراء فى فرنسا وغيرها من دول أوروبا.