فى الأردن.. الكثير مما يجب قراءته
خطوتان تم اتخاذهما إزاء أزمة «حراك» الشارع الأردنى، يمكن اعتبارهما العقار المسكن الذى سمح للداخل الأردنى بالتقاط الأنفاس. الأولى تكليف حكومة جديدة برئاسة «عمر الرزاز»، الذى أعلن بعد ساعات من تكليفه، نية حكومته سحب مشروع «قانون الضريبة المعدل»، فضلًا عن إخضاع كامل السياسة الضريبية بالمملكة لإعادة النظر والتقييم، وربما يلحق ذلك تغيير واسع فى المنظومة وشرائحها.
الخطوة الثانية، كانت عبر الاجتماع الطارئ الذى دعت إليه السعودية، بعد مجموعة رسائل عاجلة، وصلتها من أكثر من عاصمة مهمة بالإقليم وخارجه. تلخصت جميعها فى ضرورة التدخل السريع، الذى لم تتأخر عنه المملكة أو أعضاء القمة «الإمارات، الكويت». وأثمر عن تقديم منحة بمقدار ٢.٥ مليار دولار كوديعة عاجلة فى البنك المركزى الأردنى، وفتح المجال أمام تقديم حزمة ضمانات مستقبلية، يمكنها تخفيف حدة الأزمة التى تحاصر الاقتصاد الأردنى على أكثر من صعيد.
أطراف المشهد، فى الداخل الأردنى وفى محيطه الإقليمى تعلم تمامًا، أن هاتين الخطوتين فقط لتوفير مساحة للحركة أمام القصر الملكى الأردنى، وإجهاض أى تداعٍ محتمل قد يقفز على التواجد الشعبى بالشارع، الذى احتفل فى يومه الثامن أمام «الدوار الرابع» مقر الوزارة، لاعتباره أن الخطوات الملكية بدأت فى التجاوب مع مطالبه. هذه المطالب تلخصت فى ثلاثة رئيسية: إعادة دعم الخبز والمحروقات، وإعفاء السلع الأساسية من ضريبة المبيعات، وسحب مشروع قانون الضريبة على الدخل. لكن أصل «الحراك» ومسببات الاحتقان الضاغط أوسع مدى من مجرد المطالبات الثلاث، فالاقتصاد الأردنى يعانى منذ سنوات من انخفاض حاد فى الإيرادات، وإغلاق كامل لأسواق تقليدية ظل الأردن عقودًا يعتمد عليها فى صادراته، وهى العراق ولبنان وسوريا. فى التوقيت ذاته دخلت على خط تعميق الأزمة ضغوط مالية تعرضت لها الميزانية الأردنية جراء نزوح ما يتجاوز الـ«مليون لاجئ سورى»، إلى الداخل المتداعى من الأصل.
عكست المؤشرات الفعلية خلال الأعوام الماضية، حجم ما يواجهه الاقتصاد الأردنى من ارتباك عميق، تمثل فى تجاوز معدل البطالة نسبة ١٨٪ من حجم الأيدى العاملة والمؤهلين للوظائف من الأردنيين وحدهم، دون اللاجئين. وتجمدت نسبة النمو الاقتصادى عند ٢٪ منذ ٤ سنوات، ومرشحة وفق التقديرات للتراجع إلى أقل من ذلك فى ٢٠١٨. وكان دخول الأردن فى اتفاقية مع صندوق النقد الدولى، للحصول على قروض مقابل إجراء إصلاحات هيكلية فى منظومة الاقتصاد، تخفض نسبة الدين العام إلى ٧٧٪ من الناتج المحلى الإجمالى خلال ٣ سنوات قادمة، فى مقابل نسبة ٩٥٪ التى هى حاليًا ما تمثله من الناتج، أو بمعنى أدق ما يتسبب فى الإمساك بخناق الاقتصاد محل الأزمة.
هذا العرض الموجز؛ ربما يعكس صورة واقعية لما يعانى منه المواطن الأردنى من دون التفاصيل. وذات المؤشرات اقتحمت معظم البيوت الأردنية، بروايات متماثلة ومتماسة مع النسبة الغالبة للشباب والأيدى العاملة الأردنية، ما فتح مجال الفساد منطقيًا لأن يحاول الاستفادة من هذا الوضع الخانق. لذلك كان من أهم ما بدا بالمشهد العام، بمجرد اندلاع الاحتجاجات ونزولها الشارع، أن القصر الملكى وأطراف الإقليم ذات الصلة تعاملا مع الأمر وفق طبيعته وحقيقته الواضحة للعيان. فجاء حديث الملك الأردنى منذ اللحظة الأولى به قدر عالٍ من التعقل والإقرار بمسببات غضب المواطن الأردنى، وساعدت النبرة الرسمية الهادئة فى إضفاء المزيد من العقلانية على المشهد برمته.
هذه العقلانية، من تجلياتها التى ربما لأول مرة تصاحب إحدى أزمات الإقليم، هو غياب حديث «المؤامرة»، أو انسحابه سريعًا بعد أن خرج فى البداية مشوشًا يضرب فى اتجاهات عديدة. فبمجرد أن تعاملت الأطراف الفاعلة وعلى رأسها المسئولون الأردنيون مع الأمر بواقعية رصينة، قطعت الطريق ليس على تلك الأحاديث وحدها، بل حاصرت التفاقم بوعى وتركيز مقدر. وفى تجلٍ مكمل يستحق الإشارة جاء تعامل الأمن الأردنى مع المحتجين، وخلال أيام الاعتصام الذى كان ينعقد وينفض ليلًا ويعاود فى اليوم التالى، بثبات أعصاب ورقى فى التعامل يعكس إرادة القيادات الأمنية، فى وضع المشهد فى إطاره الاقتصادى والاجتماعى، دون التورط فى سحبه تجاه مربع الأزمة الأمنية.
الهواجس التى غلبت على البعض، من أن يكون هذا «الحراك» بغرض دفع الإقليم إلى مساحة من الفوضى السائلة، من داخل المربع الأردنى المشتبك بالأساس مع العديد من الملفات الأكثر حساسية، عنوانه الأبرز تمثل فى ربط ما يجرى بالداخل الأردنى مع ملف «التسوية الافتراضية» الفلسطينية، باعتبار «صفقة القرن» الأمريكية بعد خطوة نقل السفارة إلى القدس، وضعت الأردن فى مربع ضيق، لتطل الهواجس المشروعة التى تشككت من التوافق الزمنى ما بين القرار الأمريكى واشتعال الشارع الأردنى. امتداد القلق فتح التساؤلات عن الأطراف الأردنية الداخلية التى يمكنها أن تتجاوب مع أطروحات «الوطن البديل» التى بالضرورة ستكون حاضرة، فى أى ترتيبات تتعلق بـ«الصفقة» الخيالية. وعن ذكر هذه الأطراف؛ لا بد للشكوك أن تمتد تجاه «الإخوان المسلمين» ليبقى التساؤل عن حجم مشاركتهم، وتوقيت لعبهم أدوارًا من داخل «الحراك» الذى يمثل بيئة نموذجية للتنظيم، كى يحصد منه المكاسب.
لا أظن تلك الهواجس كانت بخافية عن البيت الملكى الأردنى، فهو بيت حكم يجيد قراءة المشاهد بدقة وتعقل، ويتميز ببراعة استقراء اتجاهات الريح العابرة، واليوم العاصفة تضرب نوافذه وأبوابه. يقينًا هو يدرك منطقية تلك الهواجس، وربما طرح على نفسه ما هو أكثر من تلك التساؤلات. لكن بالعودة للعقلانية، الواضح أن البيت الملكى رأى توجيه الاتهامات للخارج أو للإخوان وغيرهم سيعنى هروبًا للأمام. فى وقت يرى فيه جيدًا حقيقة ما تحت قدميه، ويقدر أنه من الضرورى أن يصحح مواضع أقدامه أولًا، قبل أن يمضى تاليًا لمنازلة ـ أيًا من كان ـ فى هذا الأمام.