ابن دقيق العيد.. فتى الصعيد الذى جدد الخطاب الدينى
عرف المسلمون في تاريخهم جماعة من العلماء المرموقين الذين شهد لهم الناس بالتبحر في العلم وسعة الحصيلة المعرفية وصدق النية في خدمة الشرع الحنيف وتوضيح رسالة الإسلام وما تزخر به من أنبل المعاني، ومن ضمن الأحاديث النبوية المشهورة التي يحفظها الكثيرون عن ظهر قلب حديث المجددين الذين يبعثهم الله على رأس كل مائة سنة حتى ينجلي الصدأ عن روح الإسلام ويعرف الكافة صحيح هذا الدين وما فيه من تسامح وأخلاقيات.
وكان من ضمن المجددين الذين قاموا بأعباء الأمانة المحمدية السيد ابن دقيق العيد واسمه بالكامل محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري ونسبته إلى قوص المدينة الشهيرة التي تقع اليوم ضمن محافظة قنا وهي من أكبر مدن الصعيد.
والجدير بالذكر أن الحركة العلمية في العصر المملوكي الذي عاش فيه عالمنا كانت من الحيوية بمكان واتسمت بالموسوعية والغزارة كما أنها ابتعدت تمامًا عن المركزية بمعنى أوضح أن القاهرة لم تكن وحدها مركز الإشعاع العلمي وملتقى الفقهاء وأصحاب العلوم، بل نافستها مراكز أخرى في الصعيد امتلأت بالمدارس ودور الحديث وازدانت وازدهرت بأعلامها من رجال الأدب والفقه والحديث ومن هذه المراكز: إسنا وأسيوط وأخميم وأسوان ومنفلوط ومدينة قوص التي ذكر عنها المؤرخ المصري ذو الأصول التركية "ابن دقماق" أنه كان بها وحدها ستة عشر مكانًا للتدريس.
وبلغ من ازدهار الحركة العلمية في صعيدنا المصري إبان عهد المماليك أن وضع الإدفوي كتابًا خاصًا أوقفه على نجباء أهل العلم في الصعيد أسماه "الطالع السعيد".
وفي الخامس والعشرين من شهر شعبان لعام 625هـ كان والد ابن دقيقى العيد وزوجته متوجهان إلى أداء فريضة الحج فولد لهما في عرض البحر قاضي الإسلام ومفتي الأنام وأحد أنبغ أهل عصره العالم ابن دقيق العيد، فلما وفد أبوه على مكة حمله بين ذراعيه وطاف به الكعبة ودعا الله أن يجعله من العلماء العاملين فكان له ما أراد.
ونشأ القاضي ابن دقيق العيد في أسرة علمية كريمة عرفت بالتقوى والتدين وطيب السمعة فأبوه كان أحد الفقهاء والمحدثين وجده معروفٌ بالعلم والورع وكانت له قصة جدير بالذكر إذ خرج في يوم العيد وهو يلبس طيلسانًا شديد البياض فقال الناس كأنه دقيق العيد فعرف عنه ذلك اللقب واستمر مع حفيده الذي تميز به فأصبح له كنية لا يعرفه الناس إلا بها.
بدأ ابن دقيق العيد طريق العلم بحفظ القرآن وهو في عمر الزهور ثم درس الفقه المالكي على يدي أبيه والشافعي على تلميذ والده "البهاء القفطي" وتردد على حلقات العلماء في قوص ثم شد الرحال إلى قاهرة المعز وفيها اتصل بسلطان العلماء العز بن عبد السلام وانقطع إليه ولازمه حتى وفاته.
وعلى يديه تعلم فقه الشافعية وأصول الفقه فلمع نجمه فيهما وصار من العلماء المبرزين ثم تاقت نفسه إلى الرحلة في طلب العلم فغادر القاهرة متوجهًا إلى دمشق وسمع من علمائها ثم عاد إلى المحروسة يفيض على الناس من نبعه الذي لم ينضب يومًا.
ومن يقرأ في سيرة عالمنا المجدد يعرف عن كثب قيامه بتدريس فقه الشافعية في مدرسة الناصرية التي أنشأها السلطان صلاح الدين الأيوبي وكان الأزهر مغلقًا في تلك الفترة بأمر صلاح الدين لأنه من آثار الفاطميين الشيعة الذين ثار عليهم وأزال ملكهم وأحل مكان مذهبهم الإسماعيلي عقيدة أهل السنة وأمر بتلقينها للناس في المساجد.
وكانت الناصرية تقع بجوار القبة التي دفن تحتها الإمام الشافعي رحمه الله، ولما كان معروفًا عن ابن دقيق العيد تضلعه في مذهبي مالك والشافعي فقد قام بتدريسهما معًا في المدرسة الفاضلية ويبدو أن خصيصة التسامح الديني عرفت في مصر على مدار تاريخها فلم نشهد أي أثر للتعصب المذهبي.
والدليل أن ابن دقيق العيد كان يعلم تلاميذه مذهبين مختلفين ولم يجدة في ذلك أية غضاضة فعلماء الفقه رغم اختلافهم يفضون إلى طريق واحد هو الكتاب والسنة كما يؤكدون دائمًا وكلهم من رسول الله ملتمسٌ غرفًا من البحر أو رشفًا من الدِّيَمِ.
ولم يقف القاضي ابن دقيق العيد عند حدود الفقه المذهبي بل إنه قد وصل بشهادة معاصريه إلى مرحلة الاجتهاد المستقل في بعض القضايا ومن أشهر كتبه وأعلاها شأنًا "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام للحافظ عبد الغني النابلسي" وهو شرحٌ أملاه المصنف على تلميذه عماد الدين بن الأثير وتمت طباعته لاحقًا في القاهرة سنة 1924 واعتنى به محمد منير الدمشقي.
وفي التاسع من صفر لعام 702هـ مات ابن دقيق العيد عن عمر يناهز السابعة والسبعين في صبيحة يوم جمعة بعد حياة حافلة قضاها في التأليف والتدريس نهارًا والعبادة ليلًا ودفن يوم السبت بسفح المقطم بعد جنازة كبيرة في يوم عز وجوده على مدار التاريخ.