السلطة السياسية تُغلق باب الاجتهاد
قد لا يعرف كثيرون أن غلق باب الاجتهاد كان قرارًا سياسيًا اتخذه الخليفة العباسى القادر بالله المتوفى عام ٤٢٢ هجرية، حيث لاحظ الخليفة الذى كان يؤيد أهل السنة والجماعة كثرة وتشتت المذاهب واختلاف الآراء فى الفروع، كما زاد الاختلاف ما بين الفقهاء، بعضهم بعضًا، فى المسألة الواحدة فى البلد الواحد، فلجأ إلى طلب تقليل المذاهب وحصرها.
وبدلًا من وضع منهج أو آلية علمية منضبطة للاجتهاد تتناسب مع التطور الذى حدث فى المجتمع العباسى بعد أربعة قرون من نزول الوحى، كان الحل الأسهل إغلاق باب الاجتهاد كله، والاقتصار على العدد المحدود من المذاهب التى أثبتت كفايتها.
جاء فى كتاب «رياض العلماء» للأصفهانى أن كبار العلماء وقتها اتفقوا على تحديد المذاهب، وأن الخليفة القادر بالله فرض مبلغًا من المال على أتباع كل مذهب، حتى يتم اعتماده، فالحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية استطاعوا لوفرة عددهم جمع المال المطلوب فأقروا مذاهبهم، وطلبوا من الشيعة تقديم المال، واتفق السيد المرتضى، الذى كان كبير الشيعة، مع الخليفة على تقديم مائة ألف دينار للاعتراف بالمذهب الجعفرى ورفع التقية عنهم والمؤاخذة للانتساب لهم، لكنه لم يستطع جمع المبلغ المطلوب رغم أنه بذل من ماله ٨٠ ألف دينار لهذا الغرض. وبذلك قرر أهل السنة والجماعة صحة المذاهب الأربعة وبطلان ما سواها، وأنه لا يحق لأحد من العلماء أن ينظر فى الكتاب والسنة، وأن يفتى أو يُفسر من عقله بل بما ورد فى المذاهب الأربعة التى أصبحت المذاهب الرسمية.
يقول ابن قيّم الجوزية: واختلفوا على أقوال كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان، وعند هؤلاء أنّ الأرض قد خلت من قائم لله بحجة، ولم يبقَ فيها من يتكلم بالعلم، ولم يحل لأحد بعد أن ينظر فى كتاب الله ولا سنة رسوله لأخذ الأحكام منهما.
وساعد على استحكام غلق باب الاجتهاد وعدم معارضة العلماء، بطش السلطة الحاكمة لكل من يقول برأى خارج المذاهب الرسمية، وخوف الأمراء من أن يؤدى الاجتهاد إلى صدور آراء تتسبب فى زوال عرشهم.
وهناك من يقول إن الفقهاء قد ضاقوا بما يطلبه منهم الحكام من فتاوى تحلل لهم ما يريدون، فاجتمعوا على غلق باب الاجتهاد ليسدوا الباب فى وجه أهواء الأمراء، وقد كثروا.
وفى مصر، وعند فتح المدرسة المستنصرية عام ٦٣١ هجرية، قُسّمت أرباعًا، فسلم ربع القبلة الأيمن إلى الشافعية، والربع الثانى يسرة القبلة للحنفية، والربع الثالث يمنة الداخل للحنابلة، والربع الرابع يسرة الداخل للمالكية، وطلبت السلطات من مُدرسى المستنصرية ألا يذكروا شيئًا من تصانيفهم ولا يُلزموا الطلاب بحفظ شىء منها، فأجابوا بالسمع والطاعة.
وحذا الظاهر بيبرس البندقدارى حذو الخليفة القادر بالله العباسى، ولم يكن يقبل قضاء غير قضاة المذاهب الأربعة المذكورة، وكان المتمذهب بغيرها يعادى ويُنكر عليه، ولا تُقبل شهادته، ولا يُقدّم للخطابة والإمامة والتدريس.
وبغلق باب الاجتهاد استراح الحكام، وخمد العقل وتوقف التفكير وانحدرت الأمة العربية إلى الهاوية.