تلك العورة المسماة بعملية السلام
هل يمكن رصد ما تم الاستيلاء عليه، ونهبه من الحق الفلسطينى، تحت مظلة ما أطلق عليها «عملية السلام». منذ أن نسجت خيوطها ما بين الفلسطينيين وإسرائيل فى «اتفاقية أوسلو» ١٩٩٣م، وصولًا لمراسم دفنها يوم الإثنين الأسود، حيث نجحت أو جنحت الولايات المتحدة فى أحداث أكبر حادث «خرق»، لأساسيات تلك العملية المتداعية أصلًا!
تبدو المهمة شاقة ليس فى حدود المساحة فقط إنما موضوعات وقضايا استلاب الحقوق، التى أفضت إلى تدمير وتفريغ القضية الفلسطينية، بدت مع محطة الاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة لإسرائيل، وكأنها تكشف عن عورة كبيرة، غير قاصرة على مرتكبيها وحدهم. بل تمتد لتطرح تساؤلات عدة، محورها الرئيسى أى جدوى تنتظرها القضية، من «عملية سلام» يتحرك جميع الأطراف تحت مظلتها الافتراضية، وأى رهان يحلم به أهلها الأصليون ومناصروهم؟!
فأمام مجزرة كتلك التى جرت، أثناء «مسيرة العودة الكبرى» التى نظمت إحياء لذكرى نكبة عام ١٩٤٨م. حيث سقط فى يوم واحد (٥٧ شهيدًا) وما يزيد على (٢٥٠٠ مصاب)، نجدنا قبل الفزع والألم، مشدودون تجاه الأسئلة الوجودية أو الرئيسية، حول مجمل الواقع أو ملامح القادم المتخيل. فبعد «٢٥ عامًا» بالتمام، ظل حق العودة والاستيطان ووضع القدس، هى الأعمدة الرئيسية لعملية السلام بالرعاية الأمريكية. وإن كان المشوار التفاوضى قد استلب الحق الأول وقيد تنفيذه، بتحويله إلى فعل رمزى تم دفنه فى فصول المشوار الأولية، وتاليًا حطم الجدار العازل وجرافات الاستيطان العمود الثانى، واليوم يعد الاعتراف الأحادى الأمريكى بالقدس عاصمة لإسرائيل، تدميرًا كاملًا، وليس «مقاربة جديدة»، كما تدعى إدارة ترامب. فماذا بقى إذن من تلك العملية «السلام» أو «التفاوض» كما يحلو للبعض تسميتها؟
دفعت القضية الفلسطينية، من دون شك ثمنًا فادحًا باعتماد الولايات المتحدة راعيًا وحيدًا لعملية السلام. وسيقت خلال الـ«٢٥ عامًا» كل التبريرات البراجماتية، التى ظلت تسوق إلى أن هذا هو فعل السياسة، وأنه لا طريق غيره، تصديقًا لمقولة «آرون ديفيد ميلر» المستشار السابق لوزراء الخارجية الأمريكية فى المفاوضات العربية الإسرائيلية، «قد لا تكون الولايات المتحدة وسيطًا صادقًا لكن بإمكانها أن تكون وسيطًا فعالًا». وقد عمل ميلر بصورة لصيقة على هذا الملف نحو عشرين عامًا، فيما كان يطلق عليه حينها «المسار التفاوضى». وهو الدبلوماسى الذى وصف مبكرًا، طلب إدارة أوباما من إسرائيل بالتجميد الشامل للمستوطنات، أنه «هدف لا يمكن تحقيقه أبدًا!».
لذلك ظل الاختلال الشاسع فى القوى بين الفلسطينيين وإسرائيل، غير قادر على تحقيق الحد الأدنى من صناعة أو تثبيت موقف تفاوضى، يمكن فقط البناء عليه. ولم يكن فشل إدارة أوباما سوى حلقة من سلسلة طويلة، لتردد الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين، فى الاستعانة بنفوذهم الكبير على إسرائيل للسير قدمًا بعملية السلام. حتى الرئيس بيل كلينتون الذى حطم عددًا من المحرمات، عندما قام باستضافة ياسر عرفات فى البيت الأبيض أكثر من عشر مرات، واستخدم قوته الدبلوماسية فى الضغط ببراعة على حكومة نتنياهو المتشددة فى المقابل. فى النهاية، ظل كلينتون الذى وصف بأنه كان الأقرب من أى رئيس لإبرام اتفاقية سلام، هو أول من ضرب بالمبادئ الأساسية لعملية السلام بشكل مروع. خاصة قرار (مجلس الأمن ٢٤٢) الذى ثبت مبدأ «الأرض مقابل السلام»، ومن خلاله صارت حدود عام ١٩٦٧ هى السقف الحاكم لأى اطار تفاوضى. ومن خلال تقديمه لموافقة ضمنية على بناء مستوطنات إسرائيلية، عبر مراوغات وإعفاءات بحجة «النمو الطبيعى»، وهو المسمار الأول الذى مهد للتغول فى القدس الشرقية وفى غيرها من مناطق الضفة.
ساهمت حقبة باراك أوباما هى الأخرى، فى المزيد من التدمير لـ«العملية» بل والشروع الفعلى لدفنها نهائيًا. فهى وإن كانت قد توقفت فعليًا فى عام ٢٠١٣، لكن الأخطر كان عندما أطلقت ذات الإدارة تحذيرًا، أعقب العدوان الإسرائيلى على غزة ٢٠١٤م بأن «نافذة حل الدولتين على وشك الإغلاق». وبعدها مباشرة قام الكونجرس الأمريكى بفرض عقوبات جديدة على السلطة الفلسطينية، كما قام بالرد على «حملة التدويل»، التى تبناها الرئيس محمود عباس، بسن قانونين جديدين، ربط بموجبهما وضع وقدرة السلطة الفلسطينية على العمل فى الولايات المتحدة، بأن يكون هناك تأكيد من الرئيس الفلسطينى على عدم الانضمام إلى أى وكالة أخرى تابعة للأمم المتحدة، أو قيام أجهزة السلطة بأى تحركات ضد إسرائيل فى «المحكمة الجنائية الدولية». وبذلك، ربطت هذه الخطوة صراحة مستقبل عمل السلطة فى واشنطن، برضى أمريكى رسمى على «حسن سير وسلوك» الرئاسة والأجهزة الفلسطينية، مع التأكيد المعتاد على أن يخوض الفلسطينيون محادثات سلام «جدية» مع إسرائيل.
هذه القوانين، التى اعتمدتها إدارة أوباما الديمقراطية. هى ذاتها التى استخدمها دونالد ترامب وإدارته الجمهورية، فى إغلاق مكاتب المنظمة الفلسطينية بواشنطن. لذلك تظل الدائرة المفرغة، مرسومة على جدار وهمى من العمل السياسى الافتراضى. وطوال الوقت هناك منهج صارم تنفذه إسرائيل على الأرض، بالجرافة ورصاصات القناصة والزخات العشوائية تجاه الفلسطينيين، فيما تخرج السلطة الفلسطينية لتتحدث عن انتهاك لـ«عملية سلام» خيالية، وتنتظر البيانات الصادرة من تلك العاصمة أو أخرى لتتقوى بها، رغم أنها واقعيًا لا تغنى ولا تحمى من موت سريرى كامل!
مفاجأة خطوة ترامب بشأن القدس، إنها غير مفاجأة. بل هى تسير وفق نسق متتابع لتدمير القضية الفلسطينى، واغتيال ممنهج بكواتم الصوت لكل أشكال الحقوق للشعب الفلسطينى، ولا يبدو أن هناك عاملًا مساعدًا لتنفيذ الجريمة، سوى تسميتها بـ«عملية السلام». لذلك يعود الدم الفلسطينى الشريف اليوم، ليصرخ فى وجه خيانة الانقسام، وفخ الاتجار بالقضية على أبواب عواصم تلعب بحسابات المكسب والخسارة، عاد الشهداء اليوم ربما كى يصححوا أبجدية المشهد من «عملية» إلى «قضية» تحرر وطنى.. فهل من مستمع أو مجيب؟